الزهد حتى المنتهي
فى جنازته رأيت رجالاً فى التسعين وشبانا فى العشرين، ونساء أصبحن جدات، وفتيات مازلن فى المدارس وعمالا وفلاحين ومثقفين وكتاب وطلاباً وأساتذة جامعات، ووزراء سابقين وحاليين وقادة سياسيين من مختلف الأجيال والتيارات والرؤى الفكرية.لم أدهش كثيرا لهذا الحشد المهول الذى رأيته، فهكذا كان أحمد نبيل الهلالي، الإجماع الوحيد فى الحياة السياسية المصرية بكل تبايناتها.لم ألجأ إليه فى شيء، وردنى خائبة أبداً، سوى مرة وحيدة، حين نشأت لدى بعض الأصدقاء فكرة فى منتصف السبعينيات الماضية، ظنوا أنها تخفف عنه بعض معاناته. فقد رأوا أن محامى الشعب، الذى يقضى معظم يومه متنقلا من محكمة إلى أخري، مدافعا عن سجناء الرأى وعن العمال وقضاياهم، ينتقل بوسائل المواصلات العامة، فبرزت الفكرة لدى الصديق محمد عبد الرسول، أن يجمع اليساريون من بينهم مبلغا من المال لشراء سيارة لكى تيسر على نبيل الهلالى رحلاته اليومية بين المحاكم، والتى تقع معظمها فى أماكن متباعدة. رفض نبيل الهلالى الفكرة رفضا قاطعا، وحين أعدت المناقشة معه فى نفس الفكرة، ابتسم ابتسامته الساخرة والساحرة، وقال : أنا بدون سيارة مبسوط كده.لم يستطع أحد أن يفرض عليه نموذجا معينا من الحياة، كانت الحياة النموذجية فى رأيه هى فى الزهد حتى المنتهي، والتقشف والتعفف والبساطة والتواضع والذوق الآثر، لم يسع لفرض اختياره على الآخرين، أو لومهم لأنهم لا يشبهونه، لقد آمن أنه لم يكن لمثله أن يكون سعيدا ببذخ فى محيط من الشقاء، واقترنت السعادة لديه برد الحقوق لأصحابها وتخفيف قبضة الظلم والقهر عن الضعفاء والمظلومين.. لذلك أكتفى بأن يكون هو نفسه.كان نبيل الهلالى يهمس وهو يتحدث بشكل شخصي، لكن صوته كان يجلجل فى جنبات المحاكم رغم نحول جسده، وكان حضوره طاغياً، ولأنه كان مهنيا محترما، عميقا فى مهنته، فقد أدهشت مرافعاته القضاة، لأنه كان يدرس القضايا التى يعمل بها، دراسة وافية دقيقة، تلم إلماما واسعاً بالقوانين التى تنظمها.وفى إحدى قضايا محاكمة مجموعة من الشيوعيين بتهمة قلب نظام الحكم، قال نبيل الهلالى إنه ليس فى القانون تهمة تسمى الشيوعية، لكن التهمة فى قانون العقوبات، هى العمل على قلب النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية، وأنه يرى أن النظام السياسى ليس من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية ، ودلل على ذلك أن النظام الديمقراطي، قائم على حق المواطنين فى تغيير النظام السياسي. أنصت القاضى إليه بإعجاب بالغ محييا بلاغة لسانه وفصاحة كلمته ثم سأله: وهل الدين يا أستاذنا من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية؟ ثم طلب منه إعداد بحث قانونى ردا على تساؤله.كانت الوجوه التى تشيعه، يغمرها شعور قوى باليتم وافتقاد الأمان، وإختلال ميزان الكون، بفراقها عنه، لكن من قال إن الموت وهو أقصى درجات الغياب، قادر على إخفاء ضوء النهار وإطفاء شعاع الشمس وإغلاق نوافذ الأمل؟سكت صوت نبيل الهلالي، لكن رسالته التى ايقنت أن العدل سينتصر على الظلم مهما كان الليل طويلا، وصدى صوته الجسور، وبهاء عقله المستنير ، وحكمته الوسيمة، ستظل تجلجل فى خلجات القلوب.أحمد نبيل الهلالى سلاما.. فمثلك أبداً لايموت.
-------------------------------------------------------------------------------------------------
شهادات بـ " النبيل " الهلالي
بقلم د. رفعت السعيدـ ، د. فوزى منصور، حسين عبد الرازق ، د. فخرى لبيب ، د. أحمد الخميسي
أيها المسجى فى قلوب الفقراء.. سلاماً
د. رفعت السعيد / الأمين العام لحزب التجمع الوحدوي
كتب د.رفعت السعيد : فى ليلة 23 يوليو 1952 قرر ضباط الثورة اعتقال أقطاب النظام الذى انقلبوا عليه.
فى سيارة جيب عسكرية انطلق الرائد كمال الحناوى لينفذ أمر القيادة باعتقال نجيب الهلالى باشا رئيس الوزراء الذى تقرر خلعه.
جنود الشرطة العسكرية انتشروا فى سراى الباشا يفتشون أو بالدقة يقلبون كل شيء رأسا على عقب، حضرة الرائد فتح دولاب ملابس وبدأ فى البحث، يده أمسكت برزمة أوراق تأملها فإذا بها بيانات ونشرات شيوعية صادرة عن تنظيم سري.
الرائد كمال الحناوى كان شيوعيا، وأسقط فى يده، من أين أتى الباشا بالمنشورات الشيوعية، وتساءل عن رد فعل زملائه الضباط المعادين للشيوعية الذين قد يعلنون أن الشيوعيين كانوا على علاقة بالنظام، تلفت ليجد الفتى ابن الباشا الذى بادر قائلا: إن الأوراق أوراقه ولا علاقة لها بالباشا.
وببساطة لملم كمال الحناوى الأوراق وأعادها مكانها، واصطحب الباشا إلى المعتقل وخرج تاركا الفتى الشيوعى فى دهشة تفوق دهشة الضابط الشيوعي.
حكى لى كمال الحناوى هذه الحكاية بعد حوالى ربع قرن من وقوعها.
وفى سجن القلعة عام 1977 وبعد أحداث انتفاضة الخبز أغلق باب زنزانة رقم 2 على سجينين هما: نبيل الهلالى وأنا امتدت حبال حديث كان يجب أن يكون طويلا بطول الزمان الذى يعزلنا معا عن العالم لعدة أيام قرروا بعدها عزل كل منا عن الآخر.
حكيت له حكاية كمال الحناوي.. فضحك تلك الضحكة التى تقطر سخرية وأكد صحتها ثم أكمل.. إن الوالد عندما علم أن ابنه الوحيد قد أصبح شيوعيا وكان قد أصبح كذلك منذ منتصف الأربعينيات حاول إقناعه بالعدول عن هذا الطريق.. فأبى فأبلغه الباشا بقرار حازم جازم إما التخلى عن هذه المبادئ وإما أن يقاطعه مقاطعة أبدية.
وقد كان عناد الأب العنيد تصادم مع إصرار الفتى الأكثر عنادا والأكثر تمسكا بالمبدأ
أرى العنقاء تكبر أن تصادا
فعاند ما استطعت له عنادا
ويواصل الأب عناده حتى رحيله، ويبقى الفتى متمسكا بالمبدأ والمعتقد ويخوض غمار نضال لم يهدأ حتى آخر لحظات الحياة.
لكننا نخطيء إذ نتصور أن فى الأمر عنادا شخصيا.
فالأب ظل إلى آخر يوم معتقدا أن الابن قد تخلى عن قيم الأسرة وعن طموحاتها وتخلى عن طبقته التى التزم الأب بأن يمثلها وأن يدافع عنها، والابن كان قد قرر بحزم وإصرار أن يترك جحيم الأغنياء لينعم فى جنة الفقراء.
والفارق اللغوى بين الكلمتين لم يكن يعنى شيئا عنده، فثراؤهم وقصورهم وأملاكهم وسهراتهم كانت جحيما عنده، أما عرق الفقراء وبؤسهم فهو ذلك الدرب الممتع المؤدى إلى جنة نضال لا ينتهي، هو مرير نعم، لكنه كان حلو المذاق، هو صعب وشائك وتنبت فى كل خطوة منه سجون ومعتقلات وعذاب وتعذيب.. لكنه النعيم بذاته.
وتحول المناضل الشيوعى إلى ما يشبه الوجد الصوفي، وكما يفعل الصوفيون قرر أن يهاجر بعيدا عن كل ما كان فى زمن الأرستقراطية، إنه ما يسمى عند الصوفيين ب الهجرة الشعورية.
ترك الطبقة التى نشأ فيها والتى شعر أنها امتصت دماء أصدقائه الجدد.. ترك لها كل شيء: القصر، والأراضى والأملاك والميراث، تجرد من كل ما تصور أنه يمت بصلة لهذا القديم.. وعاش كما أراد هو مكتفيا وفقط بابتسامة دائمة لكنها تقطر سخرية لاذعة، عاش محاميا شهيرا جدا لكنه يكتفى بقروش تكاد تسد الرمق فهو وفقط محام للفقراء والعمال، أو متطوع للدفاع فى قضايا الحريات، ومحامى الفقراء يبقى على الدوام فقيرا.
ويمضى نبيل الهلالى عبر الدرب الذى أراد.
واصل مسيرة بالغة الصعوبة لكنها كانت بالنسبة له حلوة المذاق.. وعاش مع فاطمة زكى رفيقة دربه حياة متقشفة وفقيرة لكنها كانت هانئة وجميلة، وكما منح نفسه حرية الاختيار، منحها للآخرين، فللجميع كامل الحق فى الاختيار، حتى خصومه الألداء وفى ساحات المحاكم دافع عن كل سجين رأى ومهما كان اختلافه معه.
وأما فى حياته الحزبية فقد عاش ذات الحياة الصوفية لكنه صوفى عنيد.. شديد العناد، يتمسك برأيه إلى أقصى المدي، ولا يغضب منك إذ تختلف معه.
ثم.. وأضحى التنائى بعيدا عن تدانينا.
وتبقى الصداقة الحميمة والنكات المتبادلة والمحبة المقيمة.. وفى ليلة وفاته تحدثت معه تليفونيا، عاتبته ضاحكا.. قم وفورا فلن أسمح لك أن تتهم جيلنا بأنه بعد السنين الطوال قد تحول إلى زمن الشيخوخة.. رد ضاحكا: لا تخش شيئا فنحن لم نزل فى سن الشباب وطريق مشاكساتنا لم يزل ممتدا.
لكنه خدعني.. فبعد ساعات معدودات رحل.. ترجل فارس لا يمكن تعويضه، لكنه لم يترجل نزولا.. بل تألق صعودا.. فإلى لقاء يا عزيزى وصديق الزمان الجم
-----------------------------------------------------------------------------------------------
الرجل عاش فكره.. وعاش لفكره
د. فوزى منصور
فى السنوات الأخيرة، أجمعت كل أطياف العمل السياسي، على تسمية أحمد نبيل الهلالى بالقديس أسعدنى هذا الإجماع النادر، وجدت فيه دليلا حيا على أن الفضائل الشخصية فى ممارسة العمل العام، عندما تصل تلك إلى الدرجة من الشمول وإلى تلك الحدود القصوى التى وصل إليها نبيل، تفرض الاعتراف بها فوق كل خلاف فى المذهب أو الرأى أو المصلحة.
لكننى لم أكن سعيدا كل السعادة، على التصاق ذلك اللقب به، وجدت فى ذلك إعلاء للصفات الشخصية التى تميز بها نبيل، على حساب كفاحه من أجل القضايا العامة التى وهبها حياته فصقلها وصقلته.. تميز فيها وتميزت به.
على جانب الفضائل الشخصية لم ألق قط، فى الحياة فى السير المروية المعاصرة، من يرقى إلى مستواه فى التعفف والزهد، فى إنكار الذات والبعد عن الطموحات الشخصية، وعن الأضواء التى كانت تسعى إليه وتحيط به، فى التضحية بكل ما يملك وقد كان الكثير على كل المستويات المادية والمعنوية فى سبيل خدمة المبادئ التى تبناها، فى الشجاعة الأدبية - وذلك أمر معروف للكافة - ولكن أيضا فى الشجاعة البدنية الفائقة، فما أكثر ما تعرض له مما يفوق قدرات الرجال على الصبر والتحمل، فى الدأب على العمل الفكرى العميق، والعمل الروتينى عندما يقتضى الأمر، بل والعمل الجسدى الشاق عندما كان يسخر فى المنافى والمعتقلات لقطع صخور البازلت وزراعة الصحراء، فى الحدب على الرفاق وغير الرفاق، والبر بهم.
وليس هناك منا من لا تحضره عشرات المشاهد، والأقاصيص الشبيهة أحيانا بالأساطير كلما ذكر اسم نبيل، لكن تحضرنى بالذات قصة لا أزال أشعر بالخجل كلما تذكرتها:
عرفت فى أواخر التسعينات من القرن الماضي، أنه كان يشكو من مرض مزمن بالكلي، استعصى على العلاج فى مصر، وهو أحد الأمراض التى لازمته حتى آخر أيامه، وقدرت أن أكثر ما يحتاج إليه، بالإضافة إلى العلاج المتميز، هو فترة راحة مؤقتة، من دوامة العمل العام التى تحيط به، ولم يرحم أبدا نفسه منها، فاقترحت عليه أن يذهب إلى أحد منتجعات تشيكوسلوفاكيا الصحية، المتخصصة فى علاج هذا المرض لمدة أسبوعين أو ثلاثة، وأضفت أن التكلفة أقل بكثير من الفكرة الشائعة عن هذا المنتجع الشهير، لم يسخر من اقتراحي، فقد كان أدبه الرفيع يمنعه من السخرية ممن يتحدث معه، لكن ابتسامته الرقيقة أشعرتنى على الفور بأن اقتراح ذهابه إلى منتجع صحى أوروبي، يرتاده أغنياء مصر وبعض من يقدرون من طبقاتها الوسطي، للمتعة أكثر مما هو للعلاج، كان لديه من قبيل الفكاهات التى داعبت روحه المرحة.
وفى الحقيقة، فإننى لا أذكر أبدا أن حديثا عن الخارج قد ورد على شفتيه أمامى طيلة الخمسين عاما التى عرفته فيها عن قرب، ذلك الخارج الذى يلمع دائما أمام مثقفين، وبعض ثوارنا كأضواء النجوم.
لكن ذلك كله ينتمى إلى جانب القيم والسلوك فى حياة نبيل، وهو جانب أيا كان بهاؤه وتفرده، لا يصح أن يحجب عن الأنظار ولو لحظة واحدة ذلك الجانب الآخر الأهم، وهو تكريسه لحمايته، لكل نبضة قلب دقت فى صدره، وكل ومضة فكر لمعت فى رأسه، للدفاع عن المستضعفين فى أرض مصر، وبوجه خاص عمالها وفلاحيها، وتوعيتهم بأوضاعهم وحقوقهم، وتنظيم صفوفهم، وتمكينهم من الخروج برؤياهم المجتمعية إلى حيز التنفيذ.
وهو لم يكن يفعل ذلك انطلاقا من نظرة طبقية ضيقة مغلقة، وإنما كان يدرك أن الاشتراكية التى رفع راياتها عاليا قد أصبحت، فى عصرنا الراهن، وبالنسبة لبلد فرض عليه التخلف قرونا طويلة، هى التعبير الأكثر عقلانية وتماسكا وفعالية عن أرقى وأشمل درجات الوطنية، ومن هنا امتزج عنده بشكل دائم النضال من أجل الاشتراكية، بالنضال ضد السيطرة الأجنبية ومؤثراتها السلبية، واتسع نضاله من أجل الاشتراكية، بوجه خاص فى السنوات الأخيرة، ليشمل الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان، على النحو الذى يعرفه كل من له أدنى اهتمام بالشأن العام فى مصر.
لقد فقدنا نبيل فى ظروف يبدو فيها أن مصر قد بدأت تتعافى من سبات مرضى طويل أصابها، وأصبحت - أكثر من أى وقت مضى - فى أشد الحاجة إلى قيادته النضالية المتعددة الجوانب.
فليكن بعض عزائنا عن فقده أنه ترك لنا تاريخا وقدوة، سيبقيان متوهجين يضيئان الطريق لقوى الأمة الحية.
يل، ورفيق أحلى أيام العمر.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
رحيل محامى الشعب
حسين عبد الرازق
لم أعرف أحدا يجمع الناس على محبته وتقديره واحترامه مثل نبيل الهلالى (أحمد نبيل الهلالي).. الفقراء والأغنياء، اليسار واليمين والوسط، القضاة والمحامون وحجاب المحكمة والشرطة بمن فيهم ضباط مباحث أمن الدولة الذين اعتادوا إلقاء القبض عليه فى السبعينيات.. كل ذلك رغم إنه كان دائما محددا كالسيف ومنحازاً للفقراء ولليسار وللعقيدة الشيوعية، وكان يجاهر بموقفه الفكرى والسياسى فى مواجهة الكافة.
فى مرافعته دفاعا عن المتهمين بتأسيس وإدارة الحزب الشيوعى المصرى قال نبيل .. سيدى الرئيس.. لقد عاتبتنى النيابة فى مرافعتها، بل وعايرتني، بأن شجاعتى قد خذلتني، بل وخانتني، فأحجمت عن الاعتراف أمامها بعضويتى فى الحزب الشيوعى المصري. وفات النيابة أننى وقفت أمامها متهما فى قضية، والمتهم ليس مطالبا ولا مكلفا بأن يخرج الإدعاد من ورطته، ولا بأن يسهل له لملمة أشلاء قضية. ومع ذلك، وحتى لا أخيب ظن النيابة في، اسمحوا لى أن أنطلق فى مرافعتى من مجموعة من الافتراضات. أسلم ابتداء وجدلا بأننى عضو فى الحزب الشيوعى المصري. وأسلم ابتداء وجدلا بصحة ما نسبته المباحث لهذا الحزب ولى من وثائق ومخطوطات.
كان نبيل الهلالى سياسيا من طراز رفيع. تمسك إلى ما لا نهاية بالمبدأ والعقيدة، وقدرة هائلة على التعامل- دون انتهازية- مع الجميع. لذلك لم يكن غريبا عندما اشتدت الانقسامات و الانشقاقات بين الشيوعيين فى السبعينيات أن يظل الجميع على تماس وتقدير لنبيل الهلالي. وكان محاميا مدافعا عن العمال فى قضاياهم ضد استغلال الدولة أو صاحب العمل، ومترافعا بقوة عن المناضلين ضد حكم الفرد والاستغلال، سلاحه معرفة عميقة بالقانون وأحكام القضاء والفقه، وتحليلات سياسية وطبقية تضع نضال المتهمين فى موقعه الصحيح دفاعا عن الوطن والشعب. وانحاز دائما إلى وحدة المعارضة الديمقراطية وتحالف الاشتراكيين والتحالف الوطنى الديمقراطي، كتب فى فبراير 1981 يقول .. إذ كانت الدعوة إلى تجمع المعارضة تنطلق من كل اتجاه، فإن ذلك يعكس إحساسا غالبا بأن حماية الوطن من الأخطار التى تهدده من جانب الإمبريالية والصهيونية وعملائها، وانتشال الوطن من المحنة التى ساقته إليها سياسات الحكم، مهمة شاقة لا يقوى فصيل وطنى واحد على احتكار شرف القيام به...
عندما تلقيت خبر رحيله عن دنيانا صباح الأحد الماضي، وجدت يدى تمتد إلى مكتبتى لتسحب مرافعته فى قضية الحزب الشيوعى المصرى المعروفة ب الجناية رقم 632 لسنة1977 أمن دولة عليا. فمدخل هذه المرافعة (الوثيقة) تمثل جانبا مهما من فكره ورؤيته ومواقفه.
يقول الهلالى .. هذه القضية لا تستهدف محاكمة نفر من الناس محدد الاسم، ولا محاسبتهم على جرم اقترفوه أو إثم. وهى لم تقدم إلى ساحتكم صيانة للنظام الاجتماعى أو حماية لمبادئ الدستور، إنها فى الواقع الإرهاصة المبكرة لحملة سبتمبر 1981 المشئومة، التى جمعت فشملت كل صاحب فكر حر لا يجيد الطبل والزمر ولا يحرق البخور لأولى الأمر. إنها الحلقة الأولى فى سلسلة إجراءات توالت لخنق كلمة لا، ولتكميم الأفواه ولإحناء الجباه.
إنها ليست أبدا قضية قلة حاقدة أو شلة هدامة (كما قالت النيابة العامة)، بل هى قضية المواطن المصري.. أى مواطن مصرى وكل مواطن مصري. إنها قضية حرية الفكر والعقيدة تكون فى مصر أو لا تكون.
تلك حقيقة دعوانا التى لن يفلح الإدعاء فى أخفائها أو طمسها ، مهما استمات فى الإدعاء بأن أهل القفص مجرد عصبة من الملاحدة العملاء المتعطشين للدماء.
وعلى مر العصور والعهود، فى مصر وخارج الحدود، خنق جلادو الحرية دائما الديمقراطية باسم حماية الديمقراطية. ولاحقوا الوطنيين دائما بحجة محاربة الشيوعية. وكان العداء للشيوعية- فى كل زمان ومكان- هو ستار الدخان الذى ترتكب من ورائه أبشع الانتهاكات. لقد كانت معاداة الشيوعية هى صيحة النازية فى ألمانيا، وصرخة الفاشية فى إيطاليا ، ودعوة المكارثية فى أمريكا، وذريعة إسماعيل صدقي- الذى لقبه شعبنا بعدو الشعب رقم واحد- لضرب الحركة الوطنية بأسرها فى عام ..1946 لقد حاول البعض هنا منذ أواخر السبعينيات إحياء تراث المكارثية، فاعتبروا كل من يعمل فكره شيوعيا مخربا، وكل من ينفتح على الفكر العالمى عميلا يروج الأفكار المستوردة، وكل من يجاهر برأى حر مثيرا للإحن والفتن. حتى المواطن الذى يؤثر السلامة فيبتلع لسانه فى جوفه ويقبع فى عقر داره وخوفه، لم ينجح أحيانا من تهمة التآمر من منازلهم.
أصبحت كل الطرق تؤدى بالمواطن إلى قفص الاتهام، اللهم إلا إذا تخلى عن حاسة النطق وتنكر لملكة التفكير وتنصل من آدميته وتجرد من إنسانيته، ولكن طالما بقى فى مصر قضاء عادل، جرئ فى الحق، جرئ على الباطل، فلن يجرد مواطن مصرى أو يتجرد من آدميته، وسيظل الإنسان فى مصر إنسانا ولو كره الكارهون.
كان نبيل الهلالى فى نظر كثيرين قديسا. وأسموه بحق محامى الشعب الذى يترافع عن ابنائه بالمجان، ولا يقبل أن يدافع عن متهم إلا إذا كان مقتنعا ببراءته، ويرفض قضايا المخدرات والقتل والدعارة.
كان نبيل إنسانا بكل معنى الكلمة. والإنسان له بالطبع أخطاؤه. ولكن حتى الأخطاء كانت تصدر عن إنسان فاضل نبيل يفترض الصدق والصلاح فى كل من حوله.
===================================================================
نبيل الهلالي.. وداعاً أيها الفارس الأحمر
د. فخرى لبيب
رحل نبيل الهلالى يوم الأحد 18/6/2006، ورغم أن نبيل كان فى اللحظات الأخيرة فى وضع صحى خطير غير أننى لم أصدق الخبر.. إن صورة نبيل فى رأسى دوما هى صورة فارس مقاتل يمتشق حسامه ويمتطى حصانه، يكافح الظلم والعدوان والاضطهاد لأى كائن كان بفروسية تلقائية.. هى جزء أساسى فى كونه إنسانا.
لقد أمضى نبيل الهلالى أكثر من ستين عاما دفاعا عن حقوق المظلومين الضائعين فى مجتمع يسوده عرف الغابة وانتهاك كل حقوق الإنسان.
تمرد نبيل الهلالى على طبقته وانطلق إلى الخندق الآخر يقاتلها، وخسر الكثير والكثير جدا بالعرف السائد، لكنه كسب نفسه وإرادته، ووهب حياته كلها يناضل وبصلابة لا تلين، وبلا تردد.
كان نبيل نموذجا حيا وحقيقيا للاختيار الإرادي، لأن يكون الإنسان إنسانا بالقول والفعل، لم يقف أبدا إلا إلى جانب قناعاته ورؤاه وبصيرته.
يقف نبيل فى محاكمته فى قضية الشيوعيين الكبري، أمام محكمة المجلس العسكرى برئاسة الفريق هلال عبدالله هلال فى 15 أغسطس 1959 وأمام طوفان التعذيب والتهديد ليقدم دفاعا سياسيا عما يراه الشيوعيون لوطنهم، ويجمع رفاقه أجمعون أن دفاع نبيل كان مثالا رائعا للمناضل الثورى وأن هذا الدفاع كان من أروع ما قدم فى هذه القضية.
قال نبيل الهلالى لرئيس المحكمة .. أنتم تقولون إنه يوجد حزب شيوعى وهو حزب ضار، وأنا أقول لسيادتكم إن هذا الكلام خطأ إنها وجهة نظرى أقولها وأتمسك بحقى فى قولها، يتوجب على أن أدلى بوجهة نظرى فى الحزب الشيوعى المصرى وسياسته.
دافع عن الأعمال التى قاموا بها وتضحياتهم لوطنهم وشهدائهم.
وحكم عليه بالسجن عشر سنوات أشغالا شاقة.
وفى حفل استقبال دفعة أبوزعبل الأولى والتى كان نبيل الهلالى واحدا منها، دخل العنبر بعد مطاردته شبه طائر وقد تهشمت نظارته الطبية كان عاريا وجسده يسيل دما وما إن رأى زملاءه على نفس الحال، حتى انحنى حيث توقف انحناءة طويلة جادة ويده اليمنى ترتفع نحو صدره كما كان يفعل فرسان العصور الوسطي، ويقول فى هدوء شديد: تشرفنا.
كان نبيل صورة للمناضل الصلب الصامد المتماسك الساخر الذى يحيل التعذيب والذين يقومون بالتعذيب إلى مسوخ تثير الضحك، لا الخوف والرعب، فيقدم لرفاقه زادا يدعم المقاومة ويرفع الروح المعنوية.
وتصل السخرية إلى قمة فكرية عندما يترأس تحرير مجلة هوائية داخل عنبر واحد بأوردى ليمان أبوزعبل، مجلة تمزق هيبة السادة حكام الأوردي، وتؤكد الروح المصرية الأصيلة فى تحطيم موجة الخوف والترهيب.
وتقوم قيادة الحزب الشيوعى المصرى عام 1965 بحل الحزب غير أن نبيل لا يشارك فى هذه الكارثة، ويواصل نبيل النضال، يتواصل مع شعبه متمسكا بدوره ويظل يمارس هذا الدور حتى النهاية، ظل الفارس الأحمر فارسا أحمر، لم يبدل جلده أو يغير لونه ولم يترجل عن فرسه.
وظل صامدا حتى ذهب مرفوع الهامة.
ونبيل الهلالى المحامي، علم من أعلام رجال القانون فى مصر، اسم تحوطه هالة من النظافة والشفافية، اسم مرادف للمبدأ، نبيل الهلالى قدم نموذجا جديدا لم تعهده المحاكم من قبل، نموذج يقوم على التضحية بلا حدود، لحساب أصحاب القضايا العمالية، هؤلاء الذين تطحنهم تروس الرأسمالية، تغتصب حقوقهم وتسلبهم حياتهم.
نبيل الهلالى كان صوت هؤلاء المدوى يعلن أنه مايزال فى مصر رجال يحترمون حق الإنسان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
وكان نبيل الهلالى - إلى جوار رفاقه من المحامين الآخرين - هو صوت الدفاع تطوعا عن السجناء السياسيين، كان يشعرنا بالأمان إن قبض علينا، هنالك نجد من يقف خلفنا لا ينتظر أجرا ولا ثوابا، هو فارس يوجد حيث توجد المعارك، هو قادم لا محالة، حتى أنك إن سألت أى سياسى مضطهد تحت التحقيق: من محاميك؟ لأجاب دون تردد: نبيل الهلالي. كان هو الحائط الذى نستند له جميعا والدرع الذى يتصدى ويدفع عنا غوائل الاتهامات الباطلة والمعادية وكان نبيل يستخدم سخريته المحببة فى قفشات لا مثيل لها.
فى قضية لنا عام 1978، كان المتهمون خمسة وعشرين مثلا وأعلن نبيل الهلالى أن بالقفص ستة وعشرين متهما وعجب رئيس المحكمة.. وطلب عد من فى القفص، وقال وكيل النيابة خمسة وعشرون ولكن نبيل أصر، وهنا أشار لإحدى الزميلات وكانت حاملا، وقال: هذا هو المتهم البريء إنه السادس والعشرون، وضجت المحكمة بالضحك.
ولم يكن نبيل حامى حمى المقهورين فقط لكنه كان محامى المحامين أيضا، وله دوره التاريخى الذى لا ينسى فى نقابة المحامين، ولم تكن مصادفة أبدا أن أطلق عليه زملاؤه اسم القديس الأحمر.
ويجيء نبيل الهلالى الإنسان؛ الإنسان البسيط، شديد البساطة، المتواضع، شديد التواضع.. البشوش بابتسامة تبعث الراحة والاطمئنان إلى النفس، نبيل المهذب الذى لا تعرف الحدة إليه سبيلا، والذى يختلف بموضوعية ولا يعادى إلا من يعاديه.
رحل نبيل الهلالي، أحد أساطير هذا الزمان المضيئة، نبيل الهلالى القدوة المفتقدة لجيل ينظر حوله فتضيعه القدوات التى تطفو على السطح كالزبد الذى يذهب جفاء.
الفارس الأحمر لن يرحل، سوف يظل بيننا دوما رمزا للنقاء والصفاء والشمم والإباء وإرادة البقاء.
سلام عليك يا نبيل، سلام عليك أيها الرفيق. ..سلام عليك راحلا
====================================================================
آخر خبر فى الراديوهات وفى الجوامع والكنائس
مدحت الزاهد
الهلالي... استحق عن جدارة لقب القديس فهو ينتمى إلى نموذج نادر فى الحركة السياسية، وبين البشر .. مثال فى الوضوح والاستقامة والنزاهة والتجرد .. والانحياز الكامل لمصالح الشعب وللإنسان، كان طريقه إلى الاشتراكية لوح زجاج فى محل جروبى حينما دعاه وهو صبى فى الحادية عشر من عمره والده الباشا إلى قطعة تورتة وقطعة جاتوه، لكنه لم يكمل الطبق، عندما رأى طفلا فقيرا يلعق الفاترينة الخارجية للزجاج عسى أن يطول التورتة المعروضة داخل الفاترينة .. غلبته الدموع وألح عليه السؤال: لماذا نأكل نحن التورتة .. ويلعق الآخرون الزجاج؟! واخترق الهلالى الحاجز الزجاجى وعالم القصور والباشورت ليحلم بعالم أفضل تتسع مائدته لكل البشر ..
ولم تكن مهنته المحاماة ولاتصاله فى تنظيمات الحركة الشيوعية بعيدا عن هذا الاختيار الإنسانى البسيط..
وطوال رحلته استحق عن جدارة لقب القديس فقد كان مثالا فى بساطته وتجرده ونزاهته ووضوحه وإخلاصه للناس وحبه للبشر ..
فى آخر زيارة له فى المستشفى قبل رحيله بالجسد بيومين وكان الزوار لا ينقطعون قلت: هل رأيت كيف يحبك الناس؟! فأجاب ببساطته: إذا أحببت الناس أحبوك!
وقد عشت عمرا أسمع عن الهلالي، وأتمنى صداقته حتى أصبحت مسئولا فى الأهالى عن النقابات فى فترة كانت نقابة المحامين تحمل عن جدارة لقب بيت الحريات، وكان فارس هذا البيت الهلالى مع كوكبة من أجيال كثيرة رفعت لواء الديمقراطية، فى وطن حر، لا مكان فيه لسطوة الاستبداد أو سوط الجلاد..
ولم يكن هذا أهم ما يميز الهلالى فرحلتى معه فى المحاكم والتى استحق فيها عن جدارة لقب محامى الشعب رحلة جميلة لم أر فيها عظمة الأستاذ فقط، بل أيضا شموخ الباحث وتواضع التلميذ..
وكانت مرافعته فى قضية إضراب سائقى السكة الحديد، والتى انتزع عبرها الشعب، حق الإضراب، نموذجا مبهرا لدور الدفاع .. لأسابيع قبلها، وفى قضايا أخرى كثيرة، كنت أطلب منه ميعادا فيعتذر لأنه مشغول بإعداد الدفاع وكنت أسأل نفسي: هل يحتاج الهلالى لكل هذا العناء لإعداد المرافعة وتأتينى الإجابة فى قاعة المحكمة عندما أراه بالروب الأسود الجليل، يصول ويجول دفاعا عن الأبرياء..
فى مكتبة نقابة المحامين دار بينه وبين أحمد شرف المحامى حوار حول تأسيس الدفاع على مشروعية حق الإضراب استنادا إلى توقيع الحكومة المصرية على العهدين الدوليين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية..
وطوال خمس ساعات فى قاعة المحكمة قدم الهلالى هديته للطبقة العاملة المصرية ولكل الشعب .. ولم يشأ المستشار الجليل محمد أمين الرافعي، أن يقطع مرافعة القضاء الواقف، ولكنه أراد أن يمنحه فرصة لالتقاط الأنفاس فرفع الجلسة لنصف ساعة فقط، فهذه التحفة القانونية السياسية البليغة لم تكن قابلة للتجزئة..
وفى خماسية أخرى قال لى المستشار محمد فهمى عبد العزيز رئيس محكمة جنايات الجيزة أنه يستمتع بمرافعات الهلالى عن وعى بأن دور القضاء الواقف هو إنارة الطريق للقضاء الجالس .. وعندما أصدر المستشار الرافعى حكمه التاريخى ببراءة سائقى قطارات السكة الحديد تأسيسا على مشروعية حق الإضراب وبنفس الحيثيات التى تضمنتها مرافعة محامى الشعب كانت الطرق مزدحمة فعدوت الطريق جريا على الأقدام من محكمة باب الخلق إلى مقر جريدة الأهالى فى عبد الخالق ثروت، لكى يتصدر مانشيت الأهالى الحكم التاريخى للقضاء المصرى .. وفى قضية ثورة مصر أذهلنى الهلالى مرة أخرى فلم يكتف بالمذكرة التى قدمتها النيابة لوقائع الاتهام بعد محاولة اغتيال دانيس وليامز المدير الإقليمى لوكالة المخابرات الأمريكية، على طريق كورنيش المعادي، بل عاد إلى محاضر النيابات المختلفة، فى الحوادث السابقة، التى اغتيل فيها زيفى كدار وألبرت أتراكتش من رجال الموساد الإسرائيلى وعملية محضر القاهرة، يتقدم فى مرافعته سيناريو آخر، مختلف تماما، لمواقع الضرب والأسلحة المستخدمة، وطبيعة الإصابات، والجهات التى يمكن أن تكون قد ساندت وغيرها من الوقائع، وكانت مرافعته مع سيد شعبان، نموذجا آخر للبحث الدءوب فى الوقائع الجنائية ومواد القانون ..
وفى قضية التنظيم الناصرى المسلح، كانت مرافعة الهلالى أيضا أساس البراءة، لأنه نسف عن المتهمين تهمة التخابر مع ليبيا بسبب بسيط هو أن الدولة الاتحادية مازالت قائمة، ولم تتخذ الإجراءات الدستورية لحلها، فكيف تتخابر دولة على نفسها؟!! وفى كل القضايا الأخرى انتفاضة يناير، تمرد جنود الأمن المركزي، الحزب الشيوعى المصري، ضرب العمال، 8 يناير، الجهاد، الجماعات الإسلامية، وتفجيرات طابا، كانت مرافعات الهلالى نموذجا فذا لدور الدفاع عندما يجمع بين العقل والوجدان، بين السياسة والقانون .. بين دأب الباحث، ومهارة الأستاذ، وتواضع التلميذ..
وطوال تاريخ علاقاتنا لم أر الهلالى إلا عف اللسان، مهما اشتدت به الخصومة الفكرية مع أى طرف، كلماته موزونة بميزان الذهب، لا يقصد إساءة أو إهانة دون أن يتنازل عن مبدأ أو فكرة، وكثيرا ما أوصلته بسيارتى إلى منزله فى مدينة نصر فقد كان يرفض أن تكون له سيارة، رغم حقيبته الثقيلة، كما كان يرفض الموبايل، وأراد ابن الباشوات أن يعيش بسيطا ناسكا زاهدا، وكأنه عامل بين العمال، فلاح من الفلاحين الفقراء، وطالب لا يزال على مقاعد الدراسة .. تلميذ يتعلم ويستمع بوجدان ويحب البشر .. وكان عالم الهلالى غنيا رحبا ورغم أنه ودع حياة القصور، كان أغنى إنسان فى العالم بهذا الحب الجارف، الذى جعل مصر تستقبل نبأ رحيله، مثلما استقبل العالم نبأ رحيل جيفارا، فقد عاش الهلالى من أجل الفكرة والمبدأ والمثل والقيم العليا، ثم رحل فقط بجسده، فالحياة علاقة وتواصل ومودة ورسالة ودور وحب وعطاء وهذا كله لم ينقطع، فأجيال كثيرة تمضى فى نفس الاتجاه .. وعندما يسير كثير من البشر فى اتجاه واحد يصنع الط
======================================================================
نبيل الهلالي .. سحابة العدل
د. أحمد الخميسي /كاتب مصري - دكتوراه في الأدب الروسي
كنت أستند بلا وعي ، إلى أن نبيل الهلالي موجود ، وحي ، أينما كنت أذهب ، أو أفعل ، مهما كتبت ، أو التقيت بأصدقاء ، أو مشيت في مظاهرة ، أو حضرت اجتماعا حاشدا ، في سفري ، وفي عودتي ، عند أبواب المطارات ، وساعة التفتيش ، في مواجهة ضباط المرور ، أو الداخلية ، وفرق الكاراتيه ، ولدي كل شجار عابر في الشارع أو في محل بقالة ، ومع أي انفعال سريع قد يفضي لاشتباك ، في كل ذلك كنت أعتمد بلا وعي على أن نبيل الهلالي موجود ، وأنه إذا ما حدث شيء لي ، أي شيء ، فإنه سيبرز من الظلمة ، ويشقها ، حاملا سيفه ، متقدما ، للدفاع عني . كنت مطمئنا إلى أن في الحياة دفاعا ، ودستورا ، وقانونا ، وفارسا يحمل كل تلك المواثيق ، وإلى أنه سيظهر في اللحظة المناسبة بالضبط ، بقامته الطويلة ، وعباءة المحامي ، وأنه سيرفع إصبعه النحيف ويهز رأسه، ويشير للقضاة إلى الخطأ الكبير الذي ارتكبوه ، ويأخذ في تفنيد التهمة الملفقة ، ثم يرفع عينيه المهذبتين اللامعتين إلى القضاة صائحا بصوته النحيف كسلوك الكهرباء : أفرجوا عن هذا الإنسان . كان كل المعتقلين ، والمهددين ، والملاحقين " إنسان " بالنسبة إليه ، وسواء أخرجت سالما أم لم أخرج ، كنت سأشعر أن قضيتي عادلة ، وأن هناك دفاعا في هذا الكون، يواجه كل قلاع وأسوار وقضبان الظلم، بمفرده ، بكتبه ، وأحلامه ، وشجاعته . ولم يكن هذا شعوري وحدي ، بل شعور المئات والآلاف ممن انخرطوا في العمل العام كتابة ، أو تأليفا ، أو سياسة ، أو تمردا . طالما كان الهلالي حيا كانت ثمة سحابة من الرحمة والأمل تعبر سماء القاهرة تبارك كافة المتمردين ، وتشد أزرهم ، وتصيح بهم : تقدموا ، لا تخشوا شيئا ، معكم نبيل الهلالي . سحابة بيضاء ظلت لأكثر من نصف القرن تجود بمطرها فوق أرض يابسة حيث لا أمل ، وتجود بحبها على الأشواك حيث لا زهور ، وتفيض بعدلها على البشر حيث لا عدل . الآن مع رحيل نبيل الهلالي اختفت فكرة الدفاع ، لم يعد ثمة دفاع في الحياة ، وفارقتنا الطمأنينة على مصائرنا، وتكسرت إلى شظايا صورة الهلالي الذي يجوب البلاد باحثا عن مظلوم ليدافع عنه. على مدى أكثر من نصف القرن ، يوما بعد يوم ، وساعة بعد أخرى ، دافع الهلالي عن أجيال وأجيال من المعتقلين ، من جيل الستينات ، والسبعينات ، وظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته يحضر أوراق المحاكمات ، لكي لا تكون هناك قضبان في عالمنا . وقد تحول الهلالي إلى أسطورة إنسانية ، من دون أي نوع من التمويل ، حتى أجره الذي يستحقه كمحامي لم يكن يتقاضاه ، ورسخ عبر حياته كلها مبدأ العمل التطوعي حين وهب سنوات عمره كلها للناس بدون مقابل . وكانت العدالة أغلى عنده من أية أفكار أو تصورات أخرى ، وكان مستعدا في سبيلها لكي يخسر الكثيرين ، ويكسب نفسه . وكان مكتبه وقلبه وعقله مفتوحا ليل نهار لكل أنواع التظلم ، السياسية الكبرى ، والحياتية البسيطة ، بدءا من قضايا التنظيمات التي تهدد بقلب نظام الحكم ، ومرورا بقضايا النزاعات بين العمال وأصحاب العمل ، وانتهاء بشكوى أرملة وحيدة من تأخير معاشها .
ولا أظن أن الدنيا - على الأقل في المدى الزمني المتاح لنا - ستجود مرة أخرى بقلب وعقل مهذبين وشريفين كقلب وعقل الهلالي . ولم تكن أفكاره ورؤاه السياسية مصدر ما يتمتع به من محبة واحترام بالغ ، لكن شعور الناس الدائم بأن ثمة شخصا لن يخونهم في الطريق ، وأن ثمة شخصا يستمع إليهم باهتمام ، ويسجل ما يقولونه على الورق ، ويتعهد بالدفاع عنهم ، ويفني أيامه وسنواته من أجلهم ، فقط لأنه لا يطيق الظلم ، ويعتبر أن الظلم إهانة لوجوده هو ، واعتداء على حريته هو . لم ير أحد بعد شخصا مثل الهلالي ، حالما ونبيلا ، يتحدث إليك وهو يحلق بشكل ثابت في عالم آخر ، تنتفي فيه الحاجة والعطش والفقر والتمييز والجوع والجهل والفظاظة ، ثم يهز رأسه بأدب رفيع متسائلا : ولا إيه ؟ . كان يعطيك وقته وجهده منصتا إلى الشكوى بامتنان ، وعرفان ، كأنك أنت الذي كنت تمنحه وقتك وجهدك . علمت برحيله من رسالة من صديق على الموبايل يقول فيها : " " فقدنا نبيل الهلالي . يا لها من خسارة " . وحط على الخبر ثقيلا ، موجعا . كنت أعلم أنه في المستشفى ، لكن صديقي ممدوح حبشي طمأنني أن صحته تتحسن في اليومين الأخيرين . وغمرني الشعور بالأسف ، لأنني لا أتجه إلى أناس مثل نبيل الهلالي ، وهم أحياء ، لأقول لهم هكذا بدون مناسبة : " نحن نحبكم ، ونقدركم ، أنتم أناس محترمون ، وملهمون ، ومن دونكم تصبح الحياة أرضا بلا سماء ، وبلا نجوم ، أوضوء ، أو أحلام " . رحل نبيل الهلالي ، وجفت سحابة العدل ، ولم يبق لنا الآن سوى أن نرفع رؤوسنا للسماء من وقت لآخر ، لكي نرى الموضع الذي كان يطل علينا منه ، ولكي نرى الفارس الذي كان يشق الظلمة إلينا ، زاعقا من بعيد : ها أنا قادم ، استمروا في سيركم ، لم يبق سوى خطوات ونرى أحلامنا . صدقوني . تقدموا .
ريق.. أو راجلا.
---------------------------------------------------------------------------------------------------أخبار الادب الاحد 25 يونيو 2006
http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/676/0104.html
فى جنازته رأيت رجالاً فى التسعين وشبانا فى العشرين، ونساء أصبحن جدات، وفتيات مازلن فى المدارس وعمالا وفلاحين ومثقفين وكتاب وطلاباً وأساتذة جامعات، ووزراء سابقين وحاليين وقادة سياسيين من مختلف الأجيال والتيارات والرؤى الفكرية.لم أدهش كثيرا لهذا الحشد المهول الذى رأيته، فهكذا كان أحمد نبيل الهلالي، الإجماع الوحيد فى الحياة السياسية المصرية بكل تبايناتها.لم ألجأ إليه فى شيء، وردنى خائبة أبداً، سوى مرة وحيدة، حين نشأت لدى بعض الأصدقاء فكرة فى منتصف السبعينيات الماضية، ظنوا أنها تخفف عنه بعض معاناته. فقد رأوا أن محامى الشعب، الذى يقضى معظم يومه متنقلا من محكمة إلى أخري، مدافعا عن سجناء الرأى وعن العمال وقضاياهم، ينتقل بوسائل المواصلات العامة، فبرزت الفكرة لدى الصديق محمد عبد الرسول، أن يجمع اليساريون من بينهم مبلغا من المال لشراء سيارة لكى تيسر على نبيل الهلالى رحلاته اليومية بين المحاكم، والتى تقع معظمها فى أماكن متباعدة. رفض نبيل الهلالى الفكرة رفضا قاطعا، وحين أعدت المناقشة معه فى نفس الفكرة، ابتسم ابتسامته الساخرة والساحرة، وقال : أنا بدون سيارة مبسوط كده.لم يستطع أحد أن يفرض عليه نموذجا معينا من الحياة، كانت الحياة النموذجية فى رأيه هى فى الزهد حتى المنتهي، والتقشف والتعفف والبساطة والتواضع والذوق الآثر، لم يسع لفرض اختياره على الآخرين، أو لومهم لأنهم لا يشبهونه، لقد آمن أنه لم يكن لمثله أن يكون سعيدا ببذخ فى محيط من الشقاء، واقترنت السعادة لديه برد الحقوق لأصحابها وتخفيف قبضة الظلم والقهر عن الضعفاء والمظلومين.. لذلك أكتفى بأن يكون هو نفسه.كان نبيل الهلالى يهمس وهو يتحدث بشكل شخصي، لكن صوته كان يجلجل فى جنبات المحاكم رغم نحول جسده، وكان حضوره طاغياً، ولأنه كان مهنيا محترما، عميقا فى مهنته، فقد أدهشت مرافعاته القضاة، لأنه كان يدرس القضايا التى يعمل بها، دراسة وافية دقيقة، تلم إلماما واسعاً بالقوانين التى تنظمها.وفى إحدى قضايا محاكمة مجموعة من الشيوعيين بتهمة قلب نظام الحكم، قال نبيل الهلالى إنه ليس فى القانون تهمة تسمى الشيوعية، لكن التهمة فى قانون العقوبات، هى العمل على قلب النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية، وأنه يرى أن النظام السياسى ليس من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية ، ودلل على ذلك أن النظام الديمقراطي، قائم على حق المواطنين فى تغيير النظام السياسي. أنصت القاضى إليه بإعجاب بالغ محييا بلاغة لسانه وفصاحة كلمته ثم سأله: وهل الدين يا أستاذنا من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية؟ ثم طلب منه إعداد بحث قانونى ردا على تساؤله.كانت الوجوه التى تشيعه، يغمرها شعور قوى باليتم وافتقاد الأمان، وإختلال ميزان الكون، بفراقها عنه، لكن من قال إن الموت وهو أقصى درجات الغياب، قادر على إخفاء ضوء النهار وإطفاء شعاع الشمس وإغلاق نوافذ الأمل؟سكت صوت نبيل الهلالي، لكن رسالته التى ايقنت أن العدل سينتصر على الظلم مهما كان الليل طويلا، وصدى صوته الجسور، وبهاء عقله المستنير ، وحكمته الوسيمة، ستظل تجلجل فى خلجات القلوب.أحمد نبيل الهلالى سلاما.. فمثلك أبداً لايموت.
-------------------------------------------------------------------------------------------------
شهادات بـ " النبيل " الهلالي
بقلم د. رفعت السعيدـ ، د. فوزى منصور، حسين عبد الرازق ، د. فخرى لبيب ، د. أحمد الخميسي
أيها المسجى فى قلوب الفقراء.. سلاماً
د. رفعت السعيد / الأمين العام لحزب التجمع الوحدوي
كتب د.رفعت السعيد : فى ليلة 23 يوليو 1952 قرر ضباط الثورة اعتقال أقطاب النظام الذى انقلبوا عليه.
فى سيارة جيب عسكرية انطلق الرائد كمال الحناوى لينفذ أمر القيادة باعتقال نجيب الهلالى باشا رئيس الوزراء الذى تقرر خلعه.
جنود الشرطة العسكرية انتشروا فى سراى الباشا يفتشون أو بالدقة يقلبون كل شيء رأسا على عقب، حضرة الرائد فتح دولاب ملابس وبدأ فى البحث، يده أمسكت برزمة أوراق تأملها فإذا بها بيانات ونشرات شيوعية صادرة عن تنظيم سري.
الرائد كمال الحناوى كان شيوعيا، وأسقط فى يده، من أين أتى الباشا بالمنشورات الشيوعية، وتساءل عن رد فعل زملائه الضباط المعادين للشيوعية الذين قد يعلنون أن الشيوعيين كانوا على علاقة بالنظام، تلفت ليجد الفتى ابن الباشا الذى بادر قائلا: إن الأوراق أوراقه ولا علاقة لها بالباشا.
وببساطة لملم كمال الحناوى الأوراق وأعادها مكانها، واصطحب الباشا إلى المعتقل وخرج تاركا الفتى الشيوعى فى دهشة تفوق دهشة الضابط الشيوعي.
حكى لى كمال الحناوى هذه الحكاية بعد حوالى ربع قرن من وقوعها.
وفى سجن القلعة عام 1977 وبعد أحداث انتفاضة الخبز أغلق باب زنزانة رقم 2 على سجينين هما: نبيل الهلالى وأنا امتدت حبال حديث كان يجب أن يكون طويلا بطول الزمان الذى يعزلنا معا عن العالم لعدة أيام قرروا بعدها عزل كل منا عن الآخر.
حكيت له حكاية كمال الحناوي.. فضحك تلك الضحكة التى تقطر سخرية وأكد صحتها ثم أكمل.. إن الوالد عندما علم أن ابنه الوحيد قد أصبح شيوعيا وكان قد أصبح كذلك منذ منتصف الأربعينيات حاول إقناعه بالعدول عن هذا الطريق.. فأبى فأبلغه الباشا بقرار حازم جازم إما التخلى عن هذه المبادئ وإما أن يقاطعه مقاطعة أبدية.
وقد كان عناد الأب العنيد تصادم مع إصرار الفتى الأكثر عنادا والأكثر تمسكا بالمبدأ
أرى العنقاء تكبر أن تصادا
فعاند ما استطعت له عنادا
ويواصل الأب عناده حتى رحيله، ويبقى الفتى متمسكا بالمبدأ والمعتقد ويخوض غمار نضال لم يهدأ حتى آخر لحظات الحياة.
لكننا نخطيء إذ نتصور أن فى الأمر عنادا شخصيا.
فالأب ظل إلى آخر يوم معتقدا أن الابن قد تخلى عن قيم الأسرة وعن طموحاتها وتخلى عن طبقته التى التزم الأب بأن يمثلها وأن يدافع عنها، والابن كان قد قرر بحزم وإصرار أن يترك جحيم الأغنياء لينعم فى جنة الفقراء.
والفارق اللغوى بين الكلمتين لم يكن يعنى شيئا عنده، فثراؤهم وقصورهم وأملاكهم وسهراتهم كانت جحيما عنده، أما عرق الفقراء وبؤسهم فهو ذلك الدرب الممتع المؤدى إلى جنة نضال لا ينتهي، هو مرير نعم، لكنه كان حلو المذاق، هو صعب وشائك وتنبت فى كل خطوة منه سجون ومعتقلات وعذاب وتعذيب.. لكنه النعيم بذاته.
وتحول المناضل الشيوعى إلى ما يشبه الوجد الصوفي، وكما يفعل الصوفيون قرر أن يهاجر بعيدا عن كل ما كان فى زمن الأرستقراطية، إنه ما يسمى عند الصوفيين ب الهجرة الشعورية.
ترك الطبقة التى نشأ فيها والتى شعر أنها امتصت دماء أصدقائه الجدد.. ترك لها كل شيء: القصر، والأراضى والأملاك والميراث، تجرد من كل ما تصور أنه يمت بصلة لهذا القديم.. وعاش كما أراد هو مكتفيا وفقط بابتسامة دائمة لكنها تقطر سخرية لاذعة، عاش محاميا شهيرا جدا لكنه يكتفى بقروش تكاد تسد الرمق فهو وفقط محام للفقراء والعمال، أو متطوع للدفاع فى قضايا الحريات، ومحامى الفقراء يبقى على الدوام فقيرا.
ويمضى نبيل الهلالى عبر الدرب الذى أراد.
واصل مسيرة بالغة الصعوبة لكنها كانت بالنسبة له حلوة المذاق.. وعاش مع فاطمة زكى رفيقة دربه حياة متقشفة وفقيرة لكنها كانت هانئة وجميلة، وكما منح نفسه حرية الاختيار، منحها للآخرين، فللجميع كامل الحق فى الاختيار، حتى خصومه الألداء وفى ساحات المحاكم دافع عن كل سجين رأى ومهما كان اختلافه معه.
وأما فى حياته الحزبية فقد عاش ذات الحياة الصوفية لكنه صوفى عنيد.. شديد العناد، يتمسك برأيه إلى أقصى المدي، ولا يغضب منك إذ تختلف معه.
ثم.. وأضحى التنائى بعيدا عن تدانينا.
وتبقى الصداقة الحميمة والنكات المتبادلة والمحبة المقيمة.. وفى ليلة وفاته تحدثت معه تليفونيا، عاتبته ضاحكا.. قم وفورا فلن أسمح لك أن تتهم جيلنا بأنه بعد السنين الطوال قد تحول إلى زمن الشيخوخة.. رد ضاحكا: لا تخش شيئا فنحن لم نزل فى سن الشباب وطريق مشاكساتنا لم يزل ممتدا.
لكنه خدعني.. فبعد ساعات معدودات رحل.. ترجل فارس لا يمكن تعويضه، لكنه لم يترجل نزولا.. بل تألق صعودا.. فإلى لقاء يا عزيزى وصديق الزمان الجم
-----------------------------------------------------------------------------------------------
الرجل عاش فكره.. وعاش لفكره
د. فوزى منصور
فى السنوات الأخيرة، أجمعت كل أطياف العمل السياسي، على تسمية أحمد نبيل الهلالى بالقديس أسعدنى هذا الإجماع النادر، وجدت فيه دليلا حيا على أن الفضائل الشخصية فى ممارسة العمل العام، عندما تصل تلك إلى الدرجة من الشمول وإلى تلك الحدود القصوى التى وصل إليها نبيل، تفرض الاعتراف بها فوق كل خلاف فى المذهب أو الرأى أو المصلحة.
لكننى لم أكن سعيدا كل السعادة، على التصاق ذلك اللقب به، وجدت فى ذلك إعلاء للصفات الشخصية التى تميز بها نبيل، على حساب كفاحه من أجل القضايا العامة التى وهبها حياته فصقلها وصقلته.. تميز فيها وتميزت به.
على جانب الفضائل الشخصية لم ألق قط، فى الحياة فى السير المروية المعاصرة، من يرقى إلى مستواه فى التعفف والزهد، فى إنكار الذات والبعد عن الطموحات الشخصية، وعن الأضواء التى كانت تسعى إليه وتحيط به، فى التضحية بكل ما يملك وقد كان الكثير على كل المستويات المادية والمعنوية فى سبيل خدمة المبادئ التى تبناها، فى الشجاعة الأدبية - وذلك أمر معروف للكافة - ولكن أيضا فى الشجاعة البدنية الفائقة، فما أكثر ما تعرض له مما يفوق قدرات الرجال على الصبر والتحمل، فى الدأب على العمل الفكرى العميق، والعمل الروتينى عندما يقتضى الأمر، بل والعمل الجسدى الشاق عندما كان يسخر فى المنافى والمعتقلات لقطع صخور البازلت وزراعة الصحراء، فى الحدب على الرفاق وغير الرفاق، والبر بهم.
وليس هناك منا من لا تحضره عشرات المشاهد، والأقاصيص الشبيهة أحيانا بالأساطير كلما ذكر اسم نبيل، لكن تحضرنى بالذات قصة لا أزال أشعر بالخجل كلما تذكرتها:
عرفت فى أواخر التسعينات من القرن الماضي، أنه كان يشكو من مرض مزمن بالكلي، استعصى على العلاج فى مصر، وهو أحد الأمراض التى لازمته حتى آخر أيامه، وقدرت أن أكثر ما يحتاج إليه، بالإضافة إلى العلاج المتميز، هو فترة راحة مؤقتة، من دوامة العمل العام التى تحيط به، ولم يرحم أبدا نفسه منها، فاقترحت عليه أن يذهب إلى أحد منتجعات تشيكوسلوفاكيا الصحية، المتخصصة فى علاج هذا المرض لمدة أسبوعين أو ثلاثة، وأضفت أن التكلفة أقل بكثير من الفكرة الشائعة عن هذا المنتجع الشهير، لم يسخر من اقتراحي، فقد كان أدبه الرفيع يمنعه من السخرية ممن يتحدث معه، لكن ابتسامته الرقيقة أشعرتنى على الفور بأن اقتراح ذهابه إلى منتجع صحى أوروبي، يرتاده أغنياء مصر وبعض من يقدرون من طبقاتها الوسطي، للمتعة أكثر مما هو للعلاج، كان لديه من قبيل الفكاهات التى داعبت روحه المرحة.
وفى الحقيقة، فإننى لا أذكر أبدا أن حديثا عن الخارج قد ورد على شفتيه أمامى طيلة الخمسين عاما التى عرفته فيها عن قرب، ذلك الخارج الذى يلمع دائما أمام مثقفين، وبعض ثوارنا كأضواء النجوم.
لكن ذلك كله ينتمى إلى جانب القيم والسلوك فى حياة نبيل، وهو جانب أيا كان بهاؤه وتفرده، لا يصح أن يحجب عن الأنظار ولو لحظة واحدة ذلك الجانب الآخر الأهم، وهو تكريسه لحمايته، لكل نبضة قلب دقت فى صدره، وكل ومضة فكر لمعت فى رأسه، للدفاع عن المستضعفين فى أرض مصر، وبوجه خاص عمالها وفلاحيها، وتوعيتهم بأوضاعهم وحقوقهم، وتنظيم صفوفهم، وتمكينهم من الخروج برؤياهم المجتمعية إلى حيز التنفيذ.
وهو لم يكن يفعل ذلك انطلاقا من نظرة طبقية ضيقة مغلقة، وإنما كان يدرك أن الاشتراكية التى رفع راياتها عاليا قد أصبحت، فى عصرنا الراهن، وبالنسبة لبلد فرض عليه التخلف قرونا طويلة، هى التعبير الأكثر عقلانية وتماسكا وفعالية عن أرقى وأشمل درجات الوطنية، ومن هنا امتزج عنده بشكل دائم النضال من أجل الاشتراكية، بالنضال ضد السيطرة الأجنبية ومؤثراتها السلبية، واتسع نضاله من أجل الاشتراكية، بوجه خاص فى السنوات الأخيرة، ليشمل الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان، على النحو الذى يعرفه كل من له أدنى اهتمام بالشأن العام فى مصر.
لقد فقدنا نبيل فى ظروف يبدو فيها أن مصر قد بدأت تتعافى من سبات مرضى طويل أصابها، وأصبحت - أكثر من أى وقت مضى - فى أشد الحاجة إلى قيادته النضالية المتعددة الجوانب.
فليكن بعض عزائنا عن فقده أنه ترك لنا تاريخا وقدوة، سيبقيان متوهجين يضيئان الطريق لقوى الأمة الحية.
يل، ورفيق أحلى أيام العمر.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
رحيل محامى الشعب
حسين عبد الرازق
لم أعرف أحدا يجمع الناس على محبته وتقديره واحترامه مثل نبيل الهلالى (أحمد نبيل الهلالي).. الفقراء والأغنياء، اليسار واليمين والوسط، القضاة والمحامون وحجاب المحكمة والشرطة بمن فيهم ضباط مباحث أمن الدولة الذين اعتادوا إلقاء القبض عليه فى السبعينيات.. كل ذلك رغم إنه كان دائما محددا كالسيف ومنحازاً للفقراء ولليسار وللعقيدة الشيوعية، وكان يجاهر بموقفه الفكرى والسياسى فى مواجهة الكافة.
فى مرافعته دفاعا عن المتهمين بتأسيس وإدارة الحزب الشيوعى المصرى قال نبيل .. سيدى الرئيس.. لقد عاتبتنى النيابة فى مرافعتها، بل وعايرتني، بأن شجاعتى قد خذلتني، بل وخانتني، فأحجمت عن الاعتراف أمامها بعضويتى فى الحزب الشيوعى المصري. وفات النيابة أننى وقفت أمامها متهما فى قضية، والمتهم ليس مطالبا ولا مكلفا بأن يخرج الإدعاد من ورطته، ولا بأن يسهل له لملمة أشلاء قضية. ومع ذلك، وحتى لا أخيب ظن النيابة في، اسمحوا لى أن أنطلق فى مرافعتى من مجموعة من الافتراضات. أسلم ابتداء وجدلا بأننى عضو فى الحزب الشيوعى المصري. وأسلم ابتداء وجدلا بصحة ما نسبته المباحث لهذا الحزب ولى من وثائق ومخطوطات.
كان نبيل الهلالى سياسيا من طراز رفيع. تمسك إلى ما لا نهاية بالمبدأ والعقيدة، وقدرة هائلة على التعامل- دون انتهازية- مع الجميع. لذلك لم يكن غريبا عندما اشتدت الانقسامات و الانشقاقات بين الشيوعيين فى السبعينيات أن يظل الجميع على تماس وتقدير لنبيل الهلالي. وكان محاميا مدافعا عن العمال فى قضاياهم ضد استغلال الدولة أو صاحب العمل، ومترافعا بقوة عن المناضلين ضد حكم الفرد والاستغلال، سلاحه معرفة عميقة بالقانون وأحكام القضاء والفقه، وتحليلات سياسية وطبقية تضع نضال المتهمين فى موقعه الصحيح دفاعا عن الوطن والشعب. وانحاز دائما إلى وحدة المعارضة الديمقراطية وتحالف الاشتراكيين والتحالف الوطنى الديمقراطي، كتب فى فبراير 1981 يقول .. إذ كانت الدعوة إلى تجمع المعارضة تنطلق من كل اتجاه، فإن ذلك يعكس إحساسا غالبا بأن حماية الوطن من الأخطار التى تهدده من جانب الإمبريالية والصهيونية وعملائها، وانتشال الوطن من المحنة التى ساقته إليها سياسات الحكم، مهمة شاقة لا يقوى فصيل وطنى واحد على احتكار شرف القيام به...
عندما تلقيت خبر رحيله عن دنيانا صباح الأحد الماضي، وجدت يدى تمتد إلى مكتبتى لتسحب مرافعته فى قضية الحزب الشيوعى المصرى المعروفة ب الجناية رقم 632 لسنة1977 أمن دولة عليا. فمدخل هذه المرافعة (الوثيقة) تمثل جانبا مهما من فكره ورؤيته ومواقفه.
يقول الهلالى .. هذه القضية لا تستهدف محاكمة نفر من الناس محدد الاسم، ولا محاسبتهم على جرم اقترفوه أو إثم. وهى لم تقدم إلى ساحتكم صيانة للنظام الاجتماعى أو حماية لمبادئ الدستور، إنها فى الواقع الإرهاصة المبكرة لحملة سبتمبر 1981 المشئومة، التى جمعت فشملت كل صاحب فكر حر لا يجيد الطبل والزمر ولا يحرق البخور لأولى الأمر. إنها الحلقة الأولى فى سلسلة إجراءات توالت لخنق كلمة لا، ولتكميم الأفواه ولإحناء الجباه.
إنها ليست أبدا قضية قلة حاقدة أو شلة هدامة (كما قالت النيابة العامة)، بل هى قضية المواطن المصري.. أى مواطن مصرى وكل مواطن مصري. إنها قضية حرية الفكر والعقيدة تكون فى مصر أو لا تكون.
تلك حقيقة دعوانا التى لن يفلح الإدعاء فى أخفائها أو طمسها ، مهما استمات فى الإدعاء بأن أهل القفص مجرد عصبة من الملاحدة العملاء المتعطشين للدماء.
وعلى مر العصور والعهود، فى مصر وخارج الحدود، خنق جلادو الحرية دائما الديمقراطية باسم حماية الديمقراطية. ولاحقوا الوطنيين دائما بحجة محاربة الشيوعية. وكان العداء للشيوعية- فى كل زمان ومكان- هو ستار الدخان الذى ترتكب من ورائه أبشع الانتهاكات. لقد كانت معاداة الشيوعية هى صيحة النازية فى ألمانيا، وصرخة الفاشية فى إيطاليا ، ودعوة المكارثية فى أمريكا، وذريعة إسماعيل صدقي- الذى لقبه شعبنا بعدو الشعب رقم واحد- لضرب الحركة الوطنية بأسرها فى عام ..1946 لقد حاول البعض هنا منذ أواخر السبعينيات إحياء تراث المكارثية، فاعتبروا كل من يعمل فكره شيوعيا مخربا، وكل من ينفتح على الفكر العالمى عميلا يروج الأفكار المستوردة، وكل من يجاهر برأى حر مثيرا للإحن والفتن. حتى المواطن الذى يؤثر السلامة فيبتلع لسانه فى جوفه ويقبع فى عقر داره وخوفه، لم ينجح أحيانا من تهمة التآمر من منازلهم.
أصبحت كل الطرق تؤدى بالمواطن إلى قفص الاتهام، اللهم إلا إذا تخلى عن حاسة النطق وتنكر لملكة التفكير وتنصل من آدميته وتجرد من إنسانيته، ولكن طالما بقى فى مصر قضاء عادل، جرئ فى الحق، جرئ على الباطل، فلن يجرد مواطن مصرى أو يتجرد من آدميته، وسيظل الإنسان فى مصر إنسانا ولو كره الكارهون.
كان نبيل الهلالى فى نظر كثيرين قديسا. وأسموه بحق محامى الشعب الذى يترافع عن ابنائه بالمجان، ولا يقبل أن يدافع عن متهم إلا إذا كان مقتنعا ببراءته، ويرفض قضايا المخدرات والقتل والدعارة.
كان نبيل إنسانا بكل معنى الكلمة. والإنسان له بالطبع أخطاؤه. ولكن حتى الأخطاء كانت تصدر عن إنسان فاضل نبيل يفترض الصدق والصلاح فى كل من حوله.
===================================================================
نبيل الهلالي.. وداعاً أيها الفارس الأحمر
د. فخرى لبيب
رحل نبيل الهلالى يوم الأحد 18/6/2006، ورغم أن نبيل كان فى اللحظات الأخيرة فى وضع صحى خطير غير أننى لم أصدق الخبر.. إن صورة نبيل فى رأسى دوما هى صورة فارس مقاتل يمتشق حسامه ويمتطى حصانه، يكافح الظلم والعدوان والاضطهاد لأى كائن كان بفروسية تلقائية.. هى جزء أساسى فى كونه إنسانا.
لقد أمضى نبيل الهلالى أكثر من ستين عاما دفاعا عن حقوق المظلومين الضائعين فى مجتمع يسوده عرف الغابة وانتهاك كل حقوق الإنسان.
تمرد نبيل الهلالى على طبقته وانطلق إلى الخندق الآخر يقاتلها، وخسر الكثير والكثير جدا بالعرف السائد، لكنه كسب نفسه وإرادته، ووهب حياته كلها يناضل وبصلابة لا تلين، وبلا تردد.
كان نبيل نموذجا حيا وحقيقيا للاختيار الإرادي، لأن يكون الإنسان إنسانا بالقول والفعل، لم يقف أبدا إلا إلى جانب قناعاته ورؤاه وبصيرته.
يقف نبيل فى محاكمته فى قضية الشيوعيين الكبري، أمام محكمة المجلس العسكرى برئاسة الفريق هلال عبدالله هلال فى 15 أغسطس 1959 وأمام طوفان التعذيب والتهديد ليقدم دفاعا سياسيا عما يراه الشيوعيون لوطنهم، ويجمع رفاقه أجمعون أن دفاع نبيل كان مثالا رائعا للمناضل الثورى وأن هذا الدفاع كان من أروع ما قدم فى هذه القضية.
قال نبيل الهلالى لرئيس المحكمة .. أنتم تقولون إنه يوجد حزب شيوعى وهو حزب ضار، وأنا أقول لسيادتكم إن هذا الكلام خطأ إنها وجهة نظرى أقولها وأتمسك بحقى فى قولها، يتوجب على أن أدلى بوجهة نظرى فى الحزب الشيوعى المصرى وسياسته.
دافع عن الأعمال التى قاموا بها وتضحياتهم لوطنهم وشهدائهم.
وحكم عليه بالسجن عشر سنوات أشغالا شاقة.
وفى حفل استقبال دفعة أبوزعبل الأولى والتى كان نبيل الهلالى واحدا منها، دخل العنبر بعد مطاردته شبه طائر وقد تهشمت نظارته الطبية كان عاريا وجسده يسيل دما وما إن رأى زملاءه على نفس الحال، حتى انحنى حيث توقف انحناءة طويلة جادة ويده اليمنى ترتفع نحو صدره كما كان يفعل فرسان العصور الوسطي، ويقول فى هدوء شديد: تشرفنا.
كان نبيل صورة للمناضل الصلب الصامد المتماسك الساخر الذى يحيل التعذيب والذين يقومون بالتعذيب إلى مسوخ تثير الضحك، لا الخوف والرعب، فيقدم لرفاقه زادا يدعم المقاومة ويرفع الروح المعنوية.
وتصل السخرية إلى قمة فكرية عندما يترأس تحرير مجلة هوائية داخل عنبر واحد بأوردى ليمان أبوزعبل، مجلة تمزق هيبة السادة حكام الأوردي، وتؤكد الروح المصرية الأصيلة فى تحطيم موجة الخوف والترهيب.
وتقوم قيادة الحزب الشيوعى المصرى عام 1965 بحل الحزب غير أن نبيل لا يشارك فى هذه الكارثة، ويواصل نبيل النضال، يتواصل مع شعبه متمسكا بدوره ويظل يمارس هذا الدور حتى النهاية، ظل الفارس الأحمر فارسا أحمر، لم يبدل جلده أو يغير لونه ولم يترجل عن فرسه.
وظل صامدا حتى ذهب مرفوع الهامة.
ونبيل الهلالى المحامي، علم من أعلام رجال القانون فى مصر، اسم تحوطه هالة من النظافة والشفافية، اسم مرادف للمبدأ، نبيل الهلالى قدم نموذجا جديدا لم تعهده المحاكم من قبل، نموذج يقوم على التضحية بلا حدود، لحساب أصحاب القضايا العمالية، هؤلاء الذين تطحنهم تروس الرأسمالية، تغتصب حقوقهم وتسلبهم حياتهم.
نبيل الهلالى كان صوت هؤلاء المدوى يعلن أنه مايزال فى مصر رجال يحترمون حق الإنسان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
وكان نبيل الهلالى - إلى جوار رفاقه من المحامين الآخرين - هو صوت الدفاع تطوعا عن السجناء السياسيين، كان يشعرنا بالأمان إن قبض علينا، هنالك نجد من يقف خلفنا لا ينتظر أجرا ولا ثوابا، هو فارس يوجد حيث توجد المعارك، هو قادم لا محالة، حتى أنك إن سألت أى سياسى مضطهد تحت التحقيق: من محاميك؟ لأجاب دون تردد: نبيل الهلالي. كان هو الحائط الذى نستند له جميعا والدرع الذى يتصدى ويدفع عنا غوائل الاتهامات الباطلة والمعادية وكان نبيل يستخدم سخريته المحببة فى قفشات لا مثيل لها.
فى قضية لنا عام 1978، كان المتهمون خمسة وعشرين مثلا وأعلن نبيل الهلالى أن بالقفص ستة وعشرين متهما وعجب رئيس المحكمة.. وطلب عد من فى القفص، وقال وكيل النيابة خمسة وعشرون ولكن نبيل أصر، وهنا أشار لإحدى الزميلات وكانت حاملا، وقال: هذا هو المتهم البريء إنه السادس والعشرون، وضجت المحكمة بالضحك.
ولم يكن نبيل حامى حمى المقهورين فقط لكنه كان محامى المحامين أيضا، وله دوره التاريخى الذى لا ينسى فى نقابة المحامين، ولم تكن مصادفة أبدا أن أطلق عليه زملاؤه اسم القديس الأحمر.
ويجيء نبيل الهلالى الإنسان؛ الإنسان البسيط، شديد البساطة، المتواضع، شديد التواضع.. البشوش بابتسامة تبعث الراحة والاطمئنان إلى النفس، نبيل المهذب الذى لا تعرف الحدة إليه سبيلا، والذى يختلف بموضوعية ولا يعادى إلا من يعاديه.
رحل نبيل الهلالي، أحد أساطير هذا الزمان المضيئة، نبيل الهلالى القدوة المفتقدة لجيل ينظر حوله فتضيعه القدوات التى تطفو على السطح كالزبد الذى يذهب جفاء.
الفارس الأحمر لن يرحل، سوف يظل بيننا دوما رمزا للنقاء والصفاء والشمم والإباء وإرادة البقاء.
سلام عليك يا نبيل، سلام عليك أيها الرفيق. ..سلام عليك راحلا
====================================================================
آخر خبر فى الراديوهات وفى الجوامع والكنائس
مدحت الزاهد
الهلالي... استحق عن جدارة لقب القديس فهو ينتمى إلى نموذج نادر فى الحركة السياسية، وبين البشر .. مثال فى الوضوح والاستقامة والنزاهة والتجرد .. والانحياز الكامل لمصالح الشعب وللإنسان، كان طريقه إلى الاشتراكية لوح زجاج فى محل جروبى حينما دعاه وهو صبى فى الحادية عشر من عمره والده الباشا إلى قطعة تورتة وقطعة جاتوه، لكنه لم يكمل الطبق، عندما رأى طفلا فقيرا يلعق الفاترينة الخارجية للزجاج عسى أن يطول التورتة المعروضة داخل الفاترينة .. غلبته الدموع وألح عليه السؤال: لماذا نأكل نحن التورتة .. ويلعق الآخرون الزجاج؟! واخترق الهلالى الحاجز الزجاجى وعالم القصور والباشورت ليحلم بعالم أفضل تتسع مائدته لكل البشر ..
ولم تكن مهنته المحاماة ولاتصاله فى تنظيمات الحركة الشيوعية بعيدا عن هذا الاختيار الإنسانى البسيط..
وطوال رحلته استحق عن جدارة لقب القديس فقد كان مثالا فى بساطته وتجرده ونزاهته ووضوحه وإخلاصه للناس وحبه للبشر ..
فى آخر زيارة له فى المستشفى قبل رحيله بالجسد بيومين وكان الزوار لا ينقطعون قلت: هل رأيت كيف يحبك الناس؟! فأجاب ببساطته: إذا أحببت الناس أحبوك!
وقد عشت عمرا أسمع عن الهلالي، وأتمنى صداقته حتى أصبحت مسئولا فى الأهالى عن النقابات فى فترة كانت نقابة المحامين تحمل عن جدارة لقب بيت الحريات، وكان فارس هذا البيت الهلالى مع كوكبة من أجيال كثيرة رفعت لواء الديمقراطية، فى وطن حر، لا مكان فيه لسطوة الاستبداد أو سوط الجلاد..
ولم يكن هذا أهم ما يميز الهلالى فرحلتى معه فى المحاكم والتى استحق فيها عن جدارة لقب محامى الشعب رحلة جميلة لم أر فيها عظمة الأستاذ فقط، بل أيضا شموخ الباحث وتواضع التلميذ..
وكانت مرافعته فى قضية إضراب سائقى السكة الحديد، والتى انتزع عبرها الشعب، حق الإضراب، نموذجا مبهرا لدور الدفاع .. لأسابيع قبلها، وفى قضايا أخرى كثيرة، كنت أطلب منه ميعادا فيعتذر لأنه مشغول بإعداد الدفاع وكنت أسأل نفسي: هل يحتاج الهلالى لكل هذا العناء لإعداد المرافعة وتأتينى الإجابة فى قاعة المحكمة عندما أراه بالروب الأسود الجليل، يصول ويجول دفاعا عن الأبرياء..
فى مكتبة نقابة المحامين دار بينه وبين أحمد شرف المحامى حوار حول تأسيس الدفاع على مشروعية حق الإضراب استنادا إلى توقيع الحكومة المصرية على العهدين الدوليين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية..
وطوال خمس ساعات فى قاعة المحكمة قدم الهلالى هديته للطبقة العاملة المصرية ولكل الشعب .. ولم يشأ المستشار الجليل محمد أمين الرافعي، أن يقطع مرافعة القضاء الواقف، ولكنه أراد أن يمنحه فرصة لالتقاط الأنفاس فرفع الجلسة لنصف ساعة فقط، فهذه التحفة القانونية السياسية البليغة لم تكن قابلة للتجزئة..
وفى خماسية أخرى قال لى المستشار محمد فهمى عبد العزيز رئيس محكمة جنايات الجيزة أنه يستمتع بمرافعات الهلالى عن وعى بأن دور القضاء الواقف هو إنارة الطريق للقضاء الجالس .. وعندما أصدر المستشار الرافعى حكمه التاريخى ببراءة سائقى قطارات السكة الحديد تأسيسا على مشروعية حق الإضراب وبنفس الحيثيات التى تضمنتها مرافعة محامى الشعب كانت الطرق مزدحمة فعدوت الطريق جريا على الأقدام من محكمة باب الخلق إلى مقر جريدة الأهالى فى عبد الخالق ثروت، لكى يتصدر مانشيت الأهالى الحكم التاريخى للقضاء المصرى .. وفى قضية ثورة مصر أذهلنى الهلالى مرة أخرى فلم يكتف بالمذكرة التى قدمتها النيابة لوقائع الاتهام بعد محاولة اغتيال دانيس وليامز المدير الإقليمى لوكالة المخابرات الأمريكية، على طريق كورنيش المعادي، بل عاد إلى محاضر النيابات المختلفة، فى الحوادث السابقة، التى اغتيل فيها زيفى كدار وألبرت أتراكتش من رجال الموساد الإسرائيلى وعملية محضر القاهرة، يتقدم فى مرافعته سيناريو آخر، مختلف تماما، لمواقع الضرب والأسلحة المستخدمة، وطبيعة الإصابات، والجهات التى يمكن أن تكون قد ساندت وغيرها من الوقائع، وكانت مرافعته مع سيد شعبان، نموذجا آخر للبحث الدءوب فى الوقائع الجنائية ومواد القانون ..
وفى قضية التنظيم الناصرى المسلح، كانت مرافعة الهلالى أيضا أساس البراءة، لأنه نسف عن المتهمين تهمة التخابر مع ليبيا بسبب بسيط هو أن الدولة الاتحادية مازالت قائمة، ولم تتخذ الإجراءات الدستورية لحلها، فكيف تتخابر دولة على نفسها؟!! وفى كل القضايا الأخرى انتفاضة يناير، تمرد جنود الأمن المركزي، الحزب الشيوعى المصري، ضرب العمال، 8 يناير، الجهاد، الجماعات الإسلامية، وتفجيرات طابا، كانت مرافعات الهلالى نموذجا فذا لدور الدفاع عندما يجمع بين العقل والوجدان، بين السياسة والقانون .. بين دأب الباحث، ومهارة الأستاذ، وتواضع التلميذ..
وطوال تاريخ علاقاتنا لم أر الهلالى إلا عف اللسان، مهما اشتدت به الخصومة الفكرية مع أى طرف، كلماته موزونة بميزان الذهب، لا يقصد إساءة أو إهانة دون أن يتنازل عن مبدأ أو فكرة، وكثيرا ما أوصلته بسيارتى إلى منزله فى مدينة نصر فقد كان يرفض أن تكون له سيارة، رغم حقيبته الثقيلة، كما كان يرفض الموبايل، وأراد ابن الباشوات أن يعيش بسيطا ناسكا زاهدا، وكأنه عامل بين العمال، فلاح من الفلاحين الفقراء، وطالب لا يزال على مقاعد الدراسة .. تلميذ يتعلم ويستمع بوجدان ويحب البشر .. وكان عالم الهلالى غنيا رحبا ورغم أنه ودع حياة القصور، كان أغنى إنسان فى العالم بهذا الحب الجارف، الذى جعل مصر تستقبل نبأ رحيله، مثلما استقبل العالم نبأ رحيل جيفارا، فقد عاش الهلالى من أجل الفكرة والمبدأ والمثل والقيم العليا، ثم رحل فقط بجسده، فالحياة علاقة وتواصل ومودة ورسالة ودور وحب وعطاء وهذا كله لم ينقطع، فأجيال كثيرة تمضى فى نفس الاتجاه .. وعندما يسير كثير من البشر فى اتجاه واحد يصنع الط
======================================================================
نبيل الهلالي .. سحابة العدل
د. أحمد الخميسي /كاتب مصري - دكتوراه في الأدب الروسي
كنت أستند بلا وعي ، إلى أن نبيل الهلالي موجود ، وحي ، أينما كنت أذهب ، أو أفعل ، مهما كتبت ، أو التقيت بأصدقاء ، أو مشيت في مظاهرة ، أو حضرت اجتماعا حاشدا ، في سفري ، وفي عودتي ، عند أبواب المطارات ، وساعة التفتيش ، في مواجهة ضباط المرور ، أو الداخلية ، وفرق الكاراتيه ، ولدي كل شجار عابر في الشارع أو في محل بقالة ، ومع أي انفعال سريع قد يفضي لاشتباك ، في كل ذلك كنت أعتمد بلا وعي على أن نبيل الهلالي موجود ، وأنه إذا ما حدث شيء لي ، أي شيء ، فإنه سيبرز من الظلمة ، ويشقها ، حاملا سيفه ، متقدما ، للدفاع عني . كنت مطمئنا إلى أن في الحياة دفاعا ، ودستورا ، وقانونا ، وفارسا يحمل كل تلك المواثيق ، وإلى أنه سيظهر في اللحظة المناسبة بالضبط ، بقامته الطويلة ، وعباءة المحامي ، وأنه سيرفع إصبعه النحيف ويهز رأسه، ويشير للقضاة إلى الخطأ الكبير الذي ارتكبوه ، ويأخذ في تفنيد التهمة الملفقة ، ثم يرفع عينيه المهذبتين اللامعتين إلى القضاة صائحا بصوته النحيف كسلوك الكهرباء : أفرجوا عن هذا الإنسان . كان كل المعتقلين ، والمهددين ، والملاحقين " إنسان " بالنسبة إليه ، وسواء أخرجت سالما أم لم أخرج ، كنت سأشعر أن قضيتي عادلة ، وأن هناك دفاعا في هذا الكون، يواجه كل قلاع وأسوار وقضبان الظلم، بمفرده ، بكتبه ، وأحلامه ، وشجاعته . ولم يكن هذا شعوري وحدي ، بل شعور المئات والآلاف ممن انخرطوا في العمل العام كتابة ، أو تأليفا ، أو سياسة ، أو تمردا . طالما كان الهلالي حيا كانت ثمة سحابة من الرحمة والأمل تعبر سماء القاهرة تبارك كافة المتمردين ، وتشد أزرهم ، وتصيح بهم : تقدموا ، لا تخشوا شيئا ، معكم نبيل الهلالي . سحابة بيضاء ظلت لأكثر من نصف القرن تجود بمطرها فوق أرض يابسة حيث لا أمل ، وتجود بحبها على الأشواك حيث لا زهور ، وتفيض بعدلها على البشر حيث لا عدل . الآن مع رحيل نبيل الهلالي اختفت فكرة الدفاع ، لم يعد ثمة دفاع في الحياة ، وفارقتنا الطمأنينة على مصائرنا، وتكسرت إلى شظايا صورة الهلالي الذي يجوب البلاد باحثا عن مظلوم ليدافع عنه. على مدى أكثر من نصف القرن ، يوما بعد يوم ، وساعة بعد أخرى ، دافع الهلالي عن أجيال وأجيال من المعتقلين ، من جيل الستينات ، والسبعينات ، وظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته يحضر أوراق المحاكمات ، لكي لا تكون هناك قضبان في عالمنا . وقد تحول الهلالي إلى أسطورة إنسانية ، من دون أي نوع من التمويل ، حتى أجره الذي يستحقه كمحامي لم يكن يتقاضاه ، ورسخ عبر حياته كلها مبدأ العمل التطوعي حين وهب سنوات عمره كلها للناس بدون مقابل . وكانت العدالة أغلى عنده من أية أفكار أو تصورات أخرى ، وكان مستعدا في سبيلها لكي يخسر الكثيرين ، ويكسب نفسه . وكان مكتبه وقلبه وعقله مفتوحا ليل نهار لكل أنواع التظلم ، السياسية الكبرى ، والحياتية البسيطة ، بدءا من قضايا التنظيمات التي تهدد بقلب نظام الحكم ، ومرورا بقضايا النزاعات بين العمال وأصحاب العمل ، وانتهاء بشكوى أرملة وحيدة من تأخير معاشها .
ولا أظن أن الدنيا - على الأقل في المدى الزمني المتاح لنا - ستجود مرة أخرى بقلب وعقل مهذبين وشريفين كقلب وعقل الهلالي . ولم تكن أفكاره ورؤاه السياسية مصدر ما يتمتع به من محبة واحترام بالغ ، لكن شعور الناس الدائم بأن ثمة شخصا لن يخونهم في الطريق ، وأن ثمة شخصا يستمع إليهم باهتمام ، ويسجل ما يقولونه على الورق ، ويتعهد بالدفاع عنهم ، ويفني أيامه وسنواته من أجلهم ، فقط لأنه لا يطيق الظلم ، ويعتبر أن الظلم إهانة لوجوده هو ، واعتداء على حريته هو . لم ير أحد بعد شخصا مثل الهلالي ، حالما ونبيلا ، يتحدث إليك وهو يحلق بشكل ثابت في عالم آخر ، تنتفي فيه الحاجة والعطش والفقر والتمييز والجوع والجهل والفظاظة ، ثم يهز رأسه بأدب رفيع متسائلا : ولا إيه ؟ . كان يعطيك وقته وجهده منصتا إلى الشكوى بامتنان ، وعرفان ، كأنك أنت الذي كنت تمنحه وقتك وجهدك . علمت برحيله من رسالة من صديق على الموبايل يقول فيها : " " فقدنا نبيل الهلالي . يا لها من خسارة " . وحط على الخبر ثقيلا ، موجعا . كنت أعلم أنه في المستشفى ، لكن صديقي ممدوح حبشي طمأنني أن صحته تتحسن في اليومين الأخيرين . وغمرني الشعور بالأسف ، لأنني لا أتجه إلى أناس مثل نبيل الهلالي ، وهم أحياء ، لأقول لهم هكذا بدون مناسبة : " نحن نحبكم ، ونقدركم ، أنتم أناس محترمون ، وملهمون ، ومن دونكم تصبح الحياة أرضا بلا سماء ، وبلا نجوم ، أوضوء ، أو أحلام " . رحل نبيل الهلالي ، وجفت سحابة العدل ، ولم يبق لنا الآن سوى أن نرفع رؤوسنا للسماء من وقت لآخر ، لكي نرى الموضع الذي كان يطل علينا منه ، ولكي نرى الفارس الذي كان يشق الظلمة إلينا ، زاعقا من بعيد : ها أنا قادم ، استمروا في سيركم ، لم يبق سوى خطوات ونرى أحلامنا . صدقوني . تقدموا .
ريق.. أو راجلا.
---------------------------------------------------------------------------------------------------أخبار الادب الاحد 25 يونيو 2006
http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/676/0104.html
ما أن اخذ يبرز نعش الرفيق المناضل أحمد نبيل الهلالي من المسجد المطل علي ميدان التحرير حتي انطلقت هتافات حارة تمتزج فيها أصوات عشرات من النساء والرجال من أعمار مختلفة علي ان هذه الهتافات لم تكن تتعلق مباشرة في معظمها باسم الفقيد العزيز تعبيرا عما يمثله من قيمة انسانية وسياسية ووطنية وفكرية رفيعة في حياة مصر طوال ما يقرب من نصف قرن، بل كانت هتافات تعبر عن قيم موضوعية سياسية محددة تتعلق بكفاح الشعب المصري، وكفاح الطبقة العاملة المصرية وكفاح الشيوعيين المصريينذلك ان هذه القيم الموضوعية السياسية كانت جوهر النضال العملي لفقيدنا العظيم. وعندما ارتفع صوت الجماهير المحيطة بنعش احمد نبيل الهلالي بهذه الهتافات كانت تدرك عن يقين انه لو ارتفعت هتافاتها هذه في غير هذه اللحظة لتعرضت لهجمات من بوليس السلطة سعيا لاسكاتها وتفريقها وقمعها بالعنف علي انها كنت تدرك عن يقين كذلك انها في حماية الحضرة المهيبة الرفيعة الملهمة لاحمد نبيل الهلالي محاميها ورمزها العظيم للوطنية والحقيقة وجسارة الصدق حيا أو ميتا تستطيع ان تمتلك لحظة الحقيقة الوطنية والسياسية المفتقدة بل والمقهورة وان تعبر عنها في غير تحفظ علي ان هذا الهتاف في حضرة وحماية جثمان المحامي والمناضل العظيم أحمد نبيل الهلالي لم يكن مجرد هتاف لتوديعه فحسب، بل كان كذلك تأكيدا للفقيد العظيم وتعبيرا جهيرا عن مواصلة طريقه النضالي الوطني التقدمي غير ان الجموع الغفيرة التي جاءت لتوديعه لم تكن تتمثل فقط في الجموع التي رفعت هذه الشعارات النضالية وانما تمثلت كذلك في قوي شعبية وثقافية وسياسية واجتماعية أخري علي اختلاف توجهاتها السياسية والفكرية والدينية كانت تجمع علي القيمة الانسانية والوطنية والاخلاقية الرفيعة التي تجسدت في حياة وشخص وسلوك أحمد نبيل الهلالي فلم تكن قيمته تتمثل في المباديء الوطنية والقومية والانسانية العليا التي كان يدعو اليها بصدق وعمق وتفان فحسب بل كانت تتمثل كذلك وأساسا في سلوكه الشخصي ذاته كمواطن مصري وانسان فرد فأحمد نبيل الهلالي هو ابن واحد من ابرز وزراء ورؤساء وزارات في مصر طوال المرحلة الملكية ومن أسرة أقرب الي الطبقة العليا الغنية الارستقراطية علي انه يتمرد مبكرا علي هذه الاسرة ويختار أسرته الكبيرة التاريخية: شعب مصر ولهذا لم يقبل أن يكون محاميا لقضايا خاصة وحسب وانما قضاياه كانت دائما ومنذ البداية هي قضايا المجتمع المصري بابعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية العامة ولم تكن مسيرته كمحام هي قضية مهنة بل قضية مهمة ورسالة.ولهذا كذلك كانت سيرته ومسيرته الحية والمهنية اقرب في غير مغالاة الي مسيرة الانبياء أصحاب الرسالات لما تحمل من اعتقال وسجن وتعذيب بدني ومعنوي، كان يتلقاه شامخا يرسخ ويضاعف فكره وسلوكه وما يراه ويعتقده من قيم انسانية ووطنية واجتماعية وأخلاقية ونضالية.ولهذا.. يفارقنا الرفيق العزيز أحمد نبيل الهلالي جسدا الا انه سيبقي قيمة وطنية قومية انسانية تقدمية شريفة ملهمة دائما في تاريخنا المتجدد.
--------------------------------------------------
صلاح صادق
ما غابت الشمس ولا اختفى القمر
ببراعة ليست من مدادها ثوب حدادها أسجل بأعلى صوتى.. نبيل الفرسان وفارس النبلاء.. عرفته منذ استقر بى المقام فى الوطن عام 1990.. ستة عشر عاما والصداقة لا تقاس بسنواتها ولكن بعمقها وما صبه الزمان فى وعائها من أحداث ووقائع وما من خالطها من مناسبات تكشف بل وتؤكد أن نبيل الهلالى كان فلتة زمانه وشخصية أصيلة لن تتكرر ولن يجود الزمان بمثلها.. من نافلة القول التحدث عن نبيل الموسوعة الأخلاقية فى البساطة والتواضع والدماثة والرقة والعفة ورشاقة الحديث وخفة الظل وانضباط المواعيد والالتزام الذى لا يعرف الزيغ أو التنصل.. ناهيك عن علمه الغزير فى كافة فروع المعرفة وكنا نتحلق حوله ننهل مما يفيء به علينا غير مقتر ولا مقل.. وفى المحاكم كان المترافع الذى لا يشق له غبار فاحصا ودارسا لكل جزئية مهما بلغت ضآلتها أو فرعيتها، وهو ما كان باستمرار محلا للشكر والانبهار من القضاة وحتى الخصوم الذين سجلوا له دوما كل تقدير واحترام. عبقرية نبيل الهلالى تبدت فى مناحى عديدة قد يكون من أجلاها وأحلاها الجمع بين النقائض الطيبة الخيرة.. فكان نبت الباشوات وولد وترعرع وفى فمه وفى يده ملاعق من ذهب وماس ولكنه لم تستهوه حياة القصور وما فيها من مظاهر أبهة وعز ورخاء بل انحاز للفقراء والمهمشين فى الوطن. ثم كان دوما فى مقدمة المدافعين فى قضايا الحريات وحماية الحرمات ولكنه كان يصر باستمرار أن يكون آخر المترافعين بمهارة وحذق لا يقدر عليها إلا من ملك ناصية القانون واللغة. ثم كان صاحب الاتجاه اليسارى المعروف الذى لم يحاول اخفاءه فى يوم وكان يبادلنى أوراقه فى كل وقت ولكنه لم يتردد فى الدفاع عمن أوقعهم ظلم النظام من الاخوان المسلمين أو أى من ذوى الاتجاهات الاسلامية طالما تعلق العدوان بحقوق وحريات عامة، ثم كان سخيا الى حد التبذير يخلى ما فى جيبه للفقراء والمحتاجين ولكنه كان مقلا فى مظهرياته ومأكله وتنقلاته بين وسائل النقل العام وغيرها دون أن يفكر فى اقتناء ولو سيارة صغيرة. ثم.. ثم.. ثم الكثير والكثير. صدقنى يا نبيل أنى وشعب المحروسة التى اكتحلت عيناك بترابها.. وسرى فى عروقك إكسيرها.. صدقنى لو ذرف جموع المصريين دموعهم أكثر مما يحوى نهر النيل لما شفى ذلك لوعتنا على فراقك. نبيل الهلالى قمة وقيمة وقامة.. لن أقول كان فهو لم يزل بيننا بصوته الخفيض الذى يشع أدباً واحتراما.. هو لم يزل ممتطياً صهوة جواده ولم يترجل بعد.. هو باق معنا بالقيم التى زرعها فى مخالطيه ومحبيه واخوانه وتلاميذه.. هو لم يزل بيننا يطل على ويوجه مؤسسة نبيل الهلالى التى أرجو إحياء فكرتها التى عرضت منذ شهور لتكون هيئة بحثية ودفاعية فى مجالات حقوق الانسان المعاصر.. أرجو أن تعطونى شرف الوكالة عن مؤسسيها لتكون منارة للمعرفة والارتقاء المادى والمعنوى للبشر.. وهو ما كان يحلم به حبيبى وأخى وصديقى ورفيقى نبيل الهلالى.
------------------------------------------
جريدة المصري اليوم – الأحد 25 يونيو 2006
http://www.almasry-alyoum.com/article.aspx?ArticleID=21271
برنامج نبيل الهلالي لحقوق المواطن
بقلم احمد طه النقر
كنت أعتزم الكتابة عن "عصر الجزمة"، خاصة أن "الصُرَم" صارت ترفع بلا حساب من كل حدب وصوب وفي مختلف القاعات والمنصات والمقصورات حتي باتت عنوانا للمرحلة!!، ولكن أمرا جللا منعني عن حديث "الجزمة"، فقد دهمني نبأ رحيل "محامي الشعب" أحمد نبيل الهلالي وهو الخبر الذي أصاب كل المصريين بالحزن واللوعة، خاصة الفقراء من سكان العشش والكفور الذين أدركوا فجأة أنهم فقدوا أباهم وسندهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلي أب وسند!!..
وقبل رحيل الهلالي فُجعتُ وفُجعت مصر برحيل يوسف درويش وأحمد عبد الله رُزَه، والفنانة الكبيرة هدي سلطان والفنانة النبيلة سناء يونس، تلك الفنانة الرقيقة العبقرية المناضلة التي ظُلِمَت في حياتها ومماتها رغم أنها لم تتأخر يوما عن المشاركة في أي مناسبة أو مظاهرة وطنية..!!فهكذا يموت أنبل من فينا ويبقي "الآخرون"؟!!
غير أن فجيعتي في رحيل قديس المحاماة النبيل الهلالي كانت فجيعتين، الأولي أننا فقدنا "غاندي المصري" الذي يشبه غاندي الهندي في أكثر من وجه، فالمهاتما بدأ حياته محاميا ميسورا في جنوب أفريقيا ثم تنازل عن كل شيء وتفرغ لمقاومة الاستعمار والدفاع عن الفقراء والمنبوذين في وطنه الأم الهند، والهلالي هو ابن الباشا الذي تنازل عن أملاكه لفقراء الفلاحين وتفرغ للدفاع عن مَن لا يملكون أتعاب المحاماة من مختلف التيارات حتي المختلفين معه فكريا وسياسيا، فصار نبيا للحرية والديمقراطية والسلام.. والغريب أن غاندي المصري كان يشبه المهاتما حتي في الجسد الهزيل وملامح الوجه!!،
أما فجيعتي الثانية فهي مزدوجة، وجه خاص ، وهو شعور بالحسرة والمرارة اعتراني لأن الراحل النبيل مات صبيحة يوم صدور عدد "المصري اليوم" الذي يحمل مقالا كتبته عنه وكنت أتمني أن يقرأه لكي يعرف أكثر كم نحبه ونجله ونضعه في مرتبة القديسين والأنبياء، أما الوجه الآخر فهو عام، وهو الأهم بطبيعة الحال، بل هو حجر زاوية هذا المقال، وأعني به رحيل الهلالي قبل أن تظهر إلي الوجود مبادرة أو برنامج تبنته "جمعية حقوق المواطن" باسم "برنامج نبيل الهلالي لحقوق المواطن" وهو مشروع طموح يستهدف إعداد كتيبة من المحامين (نحو مائة محام بواقع أربعة من كل محافظة)، لحمل رسالة الهلالي في معرفة واستيعاب حقوق الإنسان عموما وحقوق المواطنة علي وجه الخصوص، وتبني هذه الحقوق والدفاع عنها مجانا بنفس المنهج والمبادئ التي استنها وأرساها نبيل الهلالي، علي أن يكون هؤلاء المحامون الشبان الذين سيتم اختيارهم من بين الخريجين الجُدد في كليات الحقوق، وتُخصص لهم مكافآت مالية رمزية، هم الذراع القانونية لجمعية حقوق المواطن الذين سينتشرون في جميع المحافظات بحثا عن قضايا حقوق الإنسان ومظالم الفقراء والمحرومين لتبنيها والدفاع عنها بلا مقابل أمام المحاكم والمجتمع بشكل عام..
وأهم ما في هذه المبادرة أنني نجحت، والحمد لله، في الحصول علي موافقة الفقيد الراحل علي أن تَشرُف بحمل اسمه، وكان ذلك في إحدى مظاهرات مطلع العام الحالي أمام حرم جامعة القاهرة وكنا، هو وأنا، أول من وصل إلي مكان المظاهرة حول النصب التذكاري لشهداء الطلبة.. كان الأستاذ قد حضر معنا اجتماعاً أو اثنين للجمعية في نقابة الصحفيين ويبدو أنه أعجب بنشاط الجمعية واسمها وأهدافها ورفضها أي تمويل أجنبي.. ولا بد أن أعترف بأنني فوجئت بأنه لم يتردد كثيرا عندما عرضتُ عليه الأمر، بل استقبله بابتسامة ممتنة وأعجبته كثيرا فكرة إعداد أجيال شابة من المحامين المدربين علي حمل رسالة الدفاع عن حقوق المواطنين.. وعندما أبلغت الزملاء أعضاء الجمعية بموافقة الأستاذ أخذتهم فرحة غامرة حتى كادوا يرقصون، ولكن الفرحة لم تدم طويلا إذ سرعان ما اصطدمنا بعقبة التمويل.. فمن أين لنا بتمويل برنامج طموح ورائد كهذا ونحن لا نملك حتى مقرا دائما للجمعية؟ .. ناهيك عن مصروفات القضايا التي رفعناها علي شركة الاتصالات، وتلك التي نعتزم رفعها علي شركات الكهرباء والماء وغيرها من الشركات الاحتكارية المتعسفة التي تعصف بالمواطنين الغلابة دون رحمة وبلا أي سند من الإنسانية أو القانون!!..
ولكن أعضاء الجمعية كانوا ولا يزالون مُصرين علي تنفيذ هذا المشروع الحقوقي النبيل مهما كلفهم الأمر ومهما طال بهم الزمن، سواء عن طريق التبرعات أو بالحصول علي دعم من الدولة.. وأنا أضع هذا المشروع بين يدي جميع تلاميذ ورفاق وزملاء وأصدقاء نبيل الهلالي مناشدا إياهم أن نعمل معا لتحويل هذا الحلم إلي حقيقة ونعيد بعث مبادئ وقيم وأخلاق الراحل العظيم في عشرات المحامين الذين سيواصلون الرسالة ويقولون لكل الفقراء والغلابة: إن أباكم لم يمت فقد ترك لكم أبناء يواصلون مهمته المقدسة.. وأحمد الله أن مصر لا تزال زاخرة وحبلي بالخيرين من أحباء الهلالي، حيث أبلغني الدكتور إيمان يحيي، أحد القائمين علي "صالون النديم" بنقابة الصحفيين، بأن شخصية عامة، يرفض ذكر اسمه ، تبرع بمبلغ مائة ألف جنيه كوديعة يخصص ريعها ليكون جائزة سنوية باسم نبيل الهلالي في مجال حقوق الإنسان .. وهذه المبادرة النبيلة يمكن أن تكون لبنة أولي في "برنامج نبيل الهلالي لحقوق المواطن"، ويمكن أن تخصص كجائزة مستقلة.
المهم ألا نترك تراث الهلالي يتسرب من بين أيدينا وتذروه رياح النسيان.. فمثل الهلالي، الذي أجمعت الأمة علي حبه واحترامه واحتشدت يوم جنازته لوداعه، نجم نادر لا يظهر كثيرا في حياة البشرية وكل ما نستطيع فعله الآن هو محاولة استيلاد عشرات الأقمار لحمل رسالته النبيلة.
--------------------------------------------------
صلاح صادق
ما غابت الشمس ولا اختفى القمر
ببراعة ليست من مدادها ثوب حدادها أسجل بأعلى صوتى.. نبيل الفرسان وفارس النبلاء.. عرفته منذ استقر بى المقام فى الوطن عام 1990.. ستة عشر عاما والصداقة لا تقاس بسنواتها ولكن بعمقها وما صبه الزمان فى وعائها من أحداث ووقائع وما من خالطها من مناسبات تكشف بل وتؤكد أن نبيل الهلالى كان فلتة زمانه وشخصية أصيلة لن تتكرر ولن يجود الزمان بمثلها.. من نافلة القول التحدث عن نبيل الموسوعة الأخلاقية فى البساطة والتواضع والدماثة والرقة والعفة ورشاقة الحديث وخفة الظل وانضباط المواعيد والالتزام الذى لا يعرف الزيغ أو التنصل.. ناهيك عن علمه الغزير فى كافة فروع المعرفة وكنا نتحلق حوله ننهل مما يفيء به علينا غير مقتر ولا مقل.. وفى المحاكم كان المترافع الذى لا يشق له غبار فاحصا ودارسا لكل جزئية مهما بلغت ضآلتها أو فرعيتها، وهو ما كان باستمرار محلا للشكر والانبهار من القضاة وحتى الخصوم الذين سجلوا له دوما كل تقدير واحترام. عبقرية نبيل الهلالى تبدت فى مناحى عديدة قد يكون من أجلاها وأحلاها الجمع بين النقائض الطيبة الخيرة.. فكان نبت الباشوات وولد وترعرع وفى فمه وفى يده ملاعق من ذهب وماس ولكنه لم تستهوه حياة القصور وما فيها من مظاهر أبهة وعز ورخاء بل انحاز للفقراء والمهمشين فى الوطن. ثم كان دوما فى مقدمة المدافعين فى قضايا الحريات وحماية الحرمات ولكنه كان يصر باستمرار أن يكون آخر المترافعين بمهارة وحذق لا يقدر عليها إلا من ملك ناصية القانون واللغة. ثم كان صاحب الاتجاه اليسارى المعروف الذى لم يحاول اخفاءه فى يوم وكان يبادلنى أوراقه فى كل وقت ولكنه لم يتردد فى الدفاع عمن أوقعهم ظلم النظام من الاخوان المسلمين أو أى من ذوى الاتجاهات الاسلامية طالما تعلق العدوان بحقوق وحريات عامة، ثم كان سخيا الى حد التبذير يخلى ما فى جيبه للفقراء والمحتاجين ولكنه كان مقلا فى مظهرياته ومأكله وتنقلاته بين وسائل النقل العام وغيرها دون أن يفكر فى اقتناء ولو سيارة صغيرة. ثم.. ثم.. ثم الكثير والكثير. صدقنى يا نبيل أنى وشعب المحروسة التى اكتحلت عيناك بترابها.. وسرى فى عروقك إكسيرها.. صدقنى لو ذرف جموع المصريين دموعهم أكثر مما يحوى نهر النيل لما شفى ذلك لوعتنا على فراقك. نبيل الهلالى قمة وقيمة وقامة.. لن أقول كان فهو لم يزل بيننا بصوته الخفيض الذى يشع أدباً واحتراما.. هو لم يزل ممتطياً صهوة جواده ولم يترجل بعد.. هو باق معنا بالقيم التى زرعها فى مخالطيه ومحبيه واخوانه وتلاميذه.. هو لم يزل بيننا يطل على ويوجه مؤسسة نبيل الهلالى التى أرجو إحياء فكرتها التى عرضت منذ شهور لتكون هيئة بحثية ودفاعية فى مجالات حقوق الانسان المعاصر.. أرجو أن تعطونى شرف الوكالة عن مؤسسيها لتكون منارة للمعرفة والارتقاء المادى والمعنوى للبشر.. وهو ما كان يحلم به حبيبى وأخى وصديقى ورفيقى نبيل الهلالى.
------------------------------------------
جريدة المصري اليوم – الأحد 25 يونيو 2006
http://www.almasry-alyoum.com/article.aspx?ArticleID=21271
برنامج نبيل الهلالي لحقوق المواطن
بقلم احمد طه النقر
كنت أعتزم الكتابة عن "عصر الجزمة"، خاصة أن "الصُرَم" صارت ترفع بلا حساب من كل حدب وصوب وفي مختلف القاعات والمنصات والمقصورات حتي باتت عنوانا للمرحلة!!، ولكن أمرا جللا منعني عن حديث "الجزمة"، فقد دهمني نبأ رحيل "محامي الشعب" أحمد نبيل الهلالي وهو الخبر الذي أصاب كل المصريين بالحزن واللوعة، خاصة الفقراء من سكان العشش والكفور الذين أدركوا فجأة أنهم فقدوا أباهم وسندهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلي أب وسند!!..
وقبل رحيل الهلالي فُجعتُ وفُجعت مصر برحيل يوسف درويش وأحمد عبد الله رُزَه، والفنانة الكبيرة هدي سلطان والفنانة النبيلة سناء يونس، تلك الفنانة الرقيقة العبقرية المناضلة التي ظُلِمَت في حياتها ومماتها رغم أنها لم تتأخر يوما عن المشاركة في أي مناسبة أو مظاهرة وطنية..!!فهكذا يموت أنبل من فينا ويبقي "الآخرون"؟!!
غير أن فجيعتي في رحيل قديس المحاماة النبيل الهلالي كانت فجيعتين، الأولي أننا فقدنا "غاندي المصري" الذي يشبه غاندي الهندي في أكثر من وجه، فالمهاتما بدأ حياته محاميا ميسورا في جنوب أفريقيا ثم تنازل عن كل شيء وتفرغ لمقاومة الاستعمار والدفاع عن الفقراء والمنبوذين في وطنه الأم الهند، والهلالي هو ابن الباشا الذي تنازل عن أملاكه لفقراء الفلاحين وتفرغ للدفاع عن مَن لا يملكون أتعاب المحاماة من مختلف التيارات حتي المختلفين معه فكريا وسياسيا، فصار نبيا للحرية والديمقراطية والسلام.. والغريب أن غاندي المصري كان يشبه المهاتما حتي في الجسد الهزيل وملامح الوجه!!،
أما فجيعتي الثانية فهي مزدوجة، وجه خاص ، وهو شعور بالحسرة والمرارة اعتراني لأن الراحل النبيل مات صبيحة يوم صدور عدد "المصري اليوم" الذي يحمل مقالا كتبته عنه وكنت أتمني أن يقرأه لكي يعرف أكثر كم نحبه ونجله ونضعه في مرتبة القديسين والأنبياء، أما الوجه الآخر فهو عام، وهو الأهم بطبيعة الحال، بل هو حجر زاوية هذا المقال، وأعني به رحيل الهلالي قبل أن تظهر إلي الوجود مبادرة أو برنامج تبنته "جمعية حقوق المواطن" باسم "برنامج نبيل الهلالي لحقوق المواطن" وهو مشروع طموح يستهدف إعداد كتيبة من المحامين (نحو مائة محام بواقع أربعة من كل محافظة)، لحمل رسالة الهلالي في معرفة واستيعاب حقوق الإنسان عموما وحقوق المواطنة علي وجه الخصوص، وتبني هذه الحقوق والدفاع عنها مجانا بنفس المنهج والمبادئ التي استنها وأرساها نبيل الهلالي، علي أن يكون هؤلاء المحامون الشبان الذين سيتم اختيارهم من بين الخريجين الجُدد في كليات الحقوق، وتُخصص لهم مكافآت مالية رمزية، هم الذراع القانونية لجمعية حقوق المواطن الذين سينتشرون في جميع المحافظات بحثا عن قضايا حقوق الإنسان ومظالم الفقراء والمحرومين لتبنيها والدفاع عنها بلا مقابل أمام المحاكم والمجتمع بشكل عام..
وأهم ما في هذه المبادرة أنني نجحت، والحمد لله، في الحصول علي موافقة الفقيد الراحل علي أن تَشرُف بحمل اسمه، وكان ذلك في إحدى مظاهرات مطلع العام الحالي أمام حرم جامعة القاهرة وكنا، هو وأنا، أول من وصل إلي مكان المظاهرة حول النصب التذكاري لشهداء الطلبة.. كان الأستاذ قد حضر معنا اجتماعاً أو اثنين للجمعية في نقابة الصحفيين ويبدو أنه أعجب بنشاط الجمعية واسمها وأهدافها ورفضها أي تمويل أجنبي.. ولا بد أن أعترف بأنني فوجئت بأنه لم يتردد كثيرا عندما عرضتُ عليه الأمر، بل استقبله بابتسامة ممتنة وأعجبته كثيرا فكرة إعداد أجيال شابة من المحامين المدربين علي حمل رسالة الدفاع عن حقوق المواطنين.. وعندما أبلغت الزملاء أعضاء الجمعية بموافقة الأستاذ أخذتهم فرحة غامرة حتى كادوا يرقصون، ولكن الفرحة لم تدم طويلا إذ سرعان ما اصطدمنا بعقبة التمويل.. فمن أين لنا بتمويل برنامج طموح ورائد كهذا ونحن لا نملك حتى مقرا دائما للجمعية؟ .. ناهيك عن مصروفات القضايا التي رفعناها علي شركة الاتصالات، وتلك التي نعتزم رفعها علي شركات الكهرباء والماء وغيرها من الشركات الاحتكارية المتعسفة التي تعصف بالمواطنين الغلابة دون رحمة وبلا أي سند من الإنسانية أو القانون!!..
ولكن أعضاء الجمعية كانوا ولا يزالون مُصرين علي تنفيذ هذا المشروع الحقوقي النبيل مهما كلفهم الأمر ومهما طال بهم الزمن، سواء عن طريق التبرعات أو بالحصول علي دعم من الدولة.. وأنا أضع هذا المشروع بين يدي جميع تلاميذ ورفاق وزملاء وأصدقاء نبيل الهلالي مناشدا إياهم أن نعمل معا لتحويل هذا الحلم إلي حقيقة ونعيد بعث مبادئ وقيم وأخلاق الراحل العظيم في عشرات المحامين الذين سيواصلون الرسالة ويقولون لكل الفقراء والغلابة: إن أباكم لم يمت فقد ترك لكم أبناء يواصلون مهمته المقدسة.. وأحمد الله أن مصر لا تزال زاخرة وحبلي بالخيرين من أحباء الهلالي، حيث أبلغني الدكتور إيمان يحيي، أحد القائمين علي "صالون النديم" بنقابة الصحفيين، بأن شخصية عامة، يرفض ذكر اسمه ، تبرع بمبلغ مائة ألف جنيه كوديعة يخصص ريعها ليكون جائزة سنوية باسم نبيل الهلالي في مجال حقوق الإنسان .. وهذه المبادرة النبيلة يمكن أن تكون لبنة أولي في "برنامج نبيل الهلالي لحقوق المواطن"، ويمكن أن تخصص كجائزة مستقلة.
المهم ألا نترك تراث الهلالي يتسرب من بين أيدينا وتذروه رياح النسيان.. فمثل الهلالي، الذي أجمعت الأمة علي حبه واحترامه واحتشدت يوم جنازته لوداعه، نجم نادر لا يظهر كثيرا في حياة البشرية وكل ما نستطيع فعله الآن هو محاولة استيلاد عشرات الأقمار لحمل رسالته النبيلة.

0 Comments:
Post a Comment
<< Home